كريم شفيق
كاتب مصري
تبرز متتالية انهيار الدينار العراقي، وتدني قيمة العملة المحلية أمام الدولار، على مدار الشهرين الماضيين، أزمة بنيوية وهيكلية تخص إدارة الدولة للملف الاقتصادي، بينما يرى مراقبون أنّ هناك عوامل خارجية سياسية تؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي بالرغم من الانتعاشة المتوقعة في ظل ارتفاع أسعار النفط. مع الأخذ في الاعتبار القفزة الهائلة في الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي اقترب من حاجز المائة مليار دولار.
هل هي أزمة مؤقتة؟
ومنذ نهاية العام الماضي، يواصل الدينار العراقي تراجعه أمام الدولار، إذ فقدت العملة المحلية نحو 10 بالمائة من قيمتها. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين بالولايات المتحدة والعراق قولهم إنّ “بنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك قد بدأ فرض ضوابط أكثر صرامة على المعاملات الدولية للدولار من قبل البنوك التجارية العراقية في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، في خطوة للحد من غسل الأموال والاستيلاء غير القانوني على الدولارات التي توجه إلى إيران ودول أخرى في الشرق الأوسط تخضع لعقوبات”.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية وتداعياتها السلبية وآثارها المجتمعية، فإنّ القيود التي يفرضها بنك الاحتياط الفيدرالي تفاقم الأوضاع بالعراق نتيجة الشكوك المرتبطة بالوجهة النهائية للتحويلات المالية من المصارف العراقية، وتهريب العملة الأجنبية إلى إيران. وفي حين ذكر مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، مظهر صالح، لـوكالة “فرانس برس” أنّ “السبب الجوهري والأساسي لهذا التراجع هو قيد خارجي”، فإنّ الأطراف السياسية بالعراق، تحديداً المرتبطة بإيران، ترى أنّ الأزمة مصنوعة لضرب حكومة “الإطار التنسيقي”.
وقال رئيس تحالف الفتح، الجناح السياسي للحشد الشعبي المدعوم من إيران، إنّ الولايات المتحدة تمارس “الضغوط على العراق لمنع انفتاحه على أوروبا ودول العالم”. وتابع: “الأمريكيون يستخدمون الدولار كسلاح لتجويع الشعوب”.
ومع الاتهامات التي طاولت إيران، غرد السفير الإيراني لدى بغداد محمد كاظم آل صادق، على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر” بأنّ بلاده “تدعم العراق رغم جهود بعض الأطراف لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام بشأن قضية ارتفاع سعر الدولار الأمريكي في العراق”.
ونفى السفير الإيراني لدى العراق كل الاتهامات التي تطاول طهران بخصوص تهريب العملة الأجنبية. وقال كاظم آل صادق: “ستظل الجمهورية الإسلامية الداعم الأول لتنمية العراق واستقراره وتقدمه، رغم تعرضها لاتهامات باطلة هدفها حرف الرأي العام عن المسبب الرئيسي لأزمة سعر الدولار”.
إذاً، تبدو الأزمة الاقتصادية بالعراق معقدة ولها حمولات سياسية، فضلاً عن الأسباب المرتبطة بقدرات الأجهزة المعنية لإدارة الملف الاقتصادي، وحماية موارد الدولة.
يقول مدير المركز العراقي للحقوق والحريات وعضو المجلس الوطني للمعارضة العراقية، عادل الخزاعي، إنّ أزمة العملة المحلية بالعراق لها أبعاد سياسية اقتصادية، واضحة ومباشرة، وقد بدأت منذ عام 2021 بمجرد اكتشاف الخزانة الأمريكية كمية الأموال المهربة إلى إيران لسد النقص جراء الحصار المفروض عليها من قبل الولايات المتحدة بفعل العقوبات.
فتش عن إيران
ووفق الخزاعي في حديثه لـ”حفريات”، فإنّ إيران استعملت العراق كـ”دكان صرافة تابع لها اقتصادياً. وحتى الآن يتم تهريب مئات الملايين من العملة الصعبة إلى إيران”.
ورغم التصريحات الحكومية بضبط منافذ صرف العملة والسيطرة عليها، إلا أنّ الواقع يبدو مختلفاً، فالدينار العراقي يواصل سقوطه حتى مع الدعم الكبير للبنك المركزي للعملة المحلية. كما أنّ “التأثيرات السلبية” باتت واضحة وعنيفة على السوق المحلية العراقية، وتحديداً في ما يخص القدرة الشرائية للمواطنين، حيث تضاعفت “بشكل جنوني أسعار الأدوية والمواد الغذائية، وكذا أسعار المواد الخام الصناعية”.
ويردف: “إيران انخرطت، على نحو غير أخلاقي، في الاقتصاد العراقي، وذلك بمساعدة سياسيين عراقيين وبنوك محلية عراقية، حتى وصل الحال إلى طباعة 50 ترليون دينار عراقي، في إيران، بهدف استبدالها في بنوك عراقية بالدولار”.
النظام السياسي الحالي هو من أتاح هذا الدور الاقتصادي لـ”إيران في العراق بتوصية من مراجع الدين الشيعة، وبتسهيل مباشر من كبار المسؤولين العراقيين، كون هذا النظام هو ضمن المحور الإيراني. فالعراق، الآن، تحول لمنفذ وحيد للدولار للأنظمة في إيران وسوريا ولبنان واليمن، وذلك لتنفيذ مشاريع وحروب طهران الخارجية بأموال عراقية”، وفق ما يقول الخزاعي.
وإلى ذلك، أعلن رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، إعفاء محافظ البنك المركزي، مصطفى غالب مخيف من منصبه، بينما كلف علي محسن العلاق بإدارة البنك بالوكالة، حسبما أعلنت وكالة الأنباء العراقية.
وتضمن قرار رئيس الحكومة العراقية إحالة مدير المصرف العراقي للتجارة إلى التقاعد، وتكليف بلال الحمداني لإدارته إلى جانب مهامه الأخرى. وأثناء اجتماعه باتحاد الغرف التجارية العراقية، مطلع الأسبوع، لمناقشة أزمة سعر الصرف للعملة الأجنبية، شرع السوداني في اتخاذ جملة قرارات عاجلة لـ”معالجة” سعر صرف الدولار الأمريكي إزاء العملة المحلية. ومن بين قرارات السوداني “فتح نافذة جديدة لبيع العملة الأجنبية لصغار التجار عبر المصرف العراقي للتجارة، وتمويل البنك المركزي للمصرف بمبلغ إضافي قدره 500 مليون دولار أمريكي”.
وبحسب وكالة الأنباء العراقية، فإنّ السوداني “قرر إطلاق استيراد السلع والبضائع للشركات المسجلة لدى دائرة تسجيل الشركات في وزارة التجارة الاتحادية، وتسهيل إجراءات الاستيراد، وإلغاء إعمام هيئة الضرائب الخاص بفرض غرامات تأخيرية على المستوردين”.
تسييس الأزمة الاقتصادية
ومن جهته يرى الباحث العراقي المتخصص في العلوم السياسية، نبيل جبار التميمي، أنّ الأزمة الحالية في العراق لا تبدو سياسية، إنّما يجري تسييسها لخلق أجواء استقطاب حادة، ثم التعمية عن أسبابها، والتي بحسب تقديره “مرتبطة، تحديدا،ً بالفوضى التجارية والمصرفية في العراق المتراكمة منذ 20 عاماً نتيجة السياسات الفاسدة أو الفاشلة”.
بدأت القصة، منذ عامين، حينما طلب الفيدرالي الأمريكي من البنك المركزي العراقي تنظيم عملية إجراء الحوالات التجارية للأموال الخارجة من العراق، حيث كانت تجري بواسطة أوراق ووثائق صورية “شكلية” و”مزورة”، بينما لا تعبر عن عمليات استيراد حقيقية وواقعية، بحسب جبار التميمي لـ”حفريات”، موضحاً: “تمر بواسطة هذه الحيل الكثير من الحوالات لعدة أغراض، منها تهريب الأموال المسروقة، أو عمليات غسيل وتبييض الأموال، أو حتى تمويل الإرهاب، خلال العامين الماضيين”.
ولم يقم البنك المركزي العراقي باتخاذ إجراءات تتناسب مع حجم التغيير في آليات الحوالات، واعتماد نظام (سويفت) للتجارة والحوالات بدلاً من الأنظمة “البدائية” والتقليدية. وواجه السوق المحلي “فوضى كبيرة في التعامل مع نظام الحوالات الجديد، ولم يستطع السوق الحالي مجاراة النظام أو التأقلم معه لأسباب عدة، قد تكون ( وراء هذه الأسباب) مؤسسات حكومية مثل مؤسسة الضرائب والجمارك والمؤسسات الخاصة بمنح إجازات الاستيراد..”.
ما حدث عملياً هو “توجه السوق لإجراء حوالات مالية بطرق أخرى، بعيداً عن النظام المصرفي العراقي، وهي الطريقة التقليدية الكلاسيكية، حيث يتم نقل الأموال بشكل ملموس ومادي عبر الحدود لبلدان أخرى، ومن ثم، إدخالها النظام المصرفي، وعليه، يتم إجراء حوالات لبقية مدن العالم، الأمر الذي تسبب بزيادة الطلب، محلياً، على الدولار وارتفاع سعره رغم ثبات سعره في البنك المركزي”. يقول جبار التميمي.
ويختتم حديثه قائلاً إنّ “الوصول للدولار الخاص بالبنك المركزي لغرض الحوالات يحتاج لوثائق خاصة بالاستيراد، في حين الوصول للدولار في السوق لا يتضمن تلك الشروط، لكنه يكون مرتفعاً وباهظاً بسبب فروقات السعر نتيجة الطلب”.
المصدر حفريات