أسماء رمضان
خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، هى أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة والإذعان لقوة الأمر الواقع، أو طريق الندامة، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبدًا نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية لا تكاد تحتمل لفرط جمالها. *أروى صالح في تونس، أواخر عام 2010 اندلعت أولى بوادر الربيع العربي جراء إحراق محمد بوعزيزي نفسه مما أدى إلى احتشاد الجماهير الغاضبة في الشوارع مطالبين بإسقاط النظام، ومن تونس انتقلت شرارة الثورة إلى مصر مطلع عام 2011، ورددت الجموع التظاهرة من قلب ميدان التحرير «ارحل.. ارحل»؛ ثم انتفض الليبيون في فبراير (شباط) 2011
وبعدها اندلعت الثورة اليمنية ثم الثورة السورية.
وكما تتساقط أحجار الدومينو؛ أدت ثورات الربيع العربي إلى سقوط بعض رؤوس الأنظمة العربية بداية من هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، ومرورًا بإجبار الرئيس المصري حسني مبارك على التنحي، ثم مقتل الرئيس الليبي معمر القذافي، وسقوط الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
وبعيدًا عن أثر ثورات الربيع العربي على الشعوب التي انتفضت مطالبة بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية؛ فإنها قدمت مادة ثرية وخصبة للكُتّاب والروائيين، الذين سطروا الكثير من الأعمال الأدبية التي تتحدث عن تلك الثورات وأحوال البلاد التي اندلعت بها، وفي هذا التقرير نستعرض خمسة من أشهر تلك الروايات.
1- «أجندة سيد الأهل».. الثورة المصرية من زاوية المهمشين والبلطجية
سيجيئ الوقت الذي يعرف فيه الناس أن القتلى الذين سقطوا يوم الأربعاء 26 يناير (كانون الثاني) كانوا من البسطاء في الأحياء والحارات الذين ثاروا في مواقعهم بعيدًا عن الميادين الكبيرة؛ كانوا صانعي أحذية وعمال مطاعم صغيرة، نجارين وحدادين اختاروا أن ينزلوا ليعلنوا أنهم ضجوا ولم يعد في قوس صبرهم منزع. عندما مُنيت مصر بهزيمة عسكرية أذلتها إذلالًا تاريخيًا في حرب يونيو (حزيران) 1967 أمام إسرائيل، نسب الكثيرون تلك الهزيمة التاريخية إلى الدعم السوفيتي للدول العربية الذي لم يكن في مستوى الدعم الأمريكي لإسرائيل، ولكن المفكر السوري ياسر الحافظ ذكر حينذاك أن سبب الهزيمة يعود إلى بنية المجتمعات العربية الداخلية؛ تلك البنى التي تقبع في حالة من التردي الثقافي والسياسي جعلها تعيش حالة من الشلل واللافاعلية.
في رواية أجندة سيد الأهل، ينشغل الكاتب المصري أحمد صبري أبو الفتوح بالبنية التحتية للمجتمع المصري؛ طبقة المهمشين والفقراء الذين يعيشون في القبو، كيف نظروا إلى الثورة؟ وكيف تفاعلوا معها؟ وعلى خلفية أحداث الثورة كانت تُسرد قصص هؤلاء المهمشين؛ ومن بينهم رفاعة سيد الأهل، الذي طلب منه جهاز أمن الدولة أن يتجسس على الطلاب الاشتراكيين في الجامعة وطلاب حركة «6 أبريل»، ولما رفض ألقوا القبض عليه، وظل يتنقل من قسم إلى آخر وبعد أن لقي كافة أنواع التعذيب داخل مقرات أمن الدولة تحول إلى بلطجي.
إفرااااااج يازبالة.. هاتخربوها، مش هاتسيبوا فيها طوبة على طوبة، ولا عربية راكنة في الشارع اذهبوا إلى الميدان فقد بدأ زمانكم، زمن الحشرات ابتدا.
بهذه الكلمات تحدث ضابط الشرطة إلى رفاعة ورفاقه البلطجية، تايسون واللنش والناعم والكبش والأعور والقشاش والمئات من أمثالهم، طالبًا منهم اتباع كافة تعليمات المسؤولين بداية من ضرب المتظاهرين بالحجارة وحتى دخول ميدان التحرير بالجياد والإبل وهو ما عُرف باسم «موقعة الجمل».
2- «ورقات من دفتر الخوف».. كيف رأى المثقفون الثورة التونسية؟
حكمنا بن علي وأركب علينا طغمته وعائلته الفاسدة، وما هم في الأصل سوى أصنام من رمل اندثرت لأول موجة، وعجبت للناس يتحدونه، أمام معقل جهازه الأمني الذي أقام عليه مجده وكرس بقاءه، وهم يعرفون من بطشه ما لم يعد خافيًا على أحد، وخيّل إليّ ساعتها أن الخوف انتقل من المستضعف إلى الآمر الناهي.
ترصد الرواية مجريات أحداث «ثورة الياسمين» منذ اليوم الأول، يسردها الروائي التونسي أبو بكر العيادي من وجهة نظر مثقف تونسي مهاجر إلى باريس؛ يتابع من منفاه ما يجري في بلاده عبر القنوات التلفزيونية الأجنبية ووسائل التواصل الاجتماعي، وعلى خلفية أحداث الثورة يتحدث البطل عن واقع المجتمع التونسي تحت وطأة حكم الرئيس زين العابدين.
ترتد ذاكرة بطل الرواية إلى واقع تونس قبل الثورة، وذلك قبل أن يتركها مهاجرًا برغبته في المرة الأولى ومضطرًا في المرة الثانية، إذ يقول البطل في أحد مقاطع الرواية: «كان ذلك قبل أن يضطرني النظام إلى العيش في المنفى، مجتثًا من تربتي، محرومًا من رائحة بلادي، لذت بعزلتي أدون في الورق ما يساورني كل ليل».
وكشفت الرواية ما يتعرض له المثقفون من مضايقات في تونس؛ بداية من مصادرة المؤلفات ومنع ترويجها، ونهاية بالبوليس السياسي الذي يزج بأولئك المثقفين في غياهب السجون والمعتقلات، المعلنة منها والسرية.
3- «عدو الشمس البهلوان الذي صار وحشًا».. الثورة الليبية كما رآها معمر القذافي
إن أرصدتنا في بنوك العالم قد جمدت، وممتلكاتنا صودرت، والبوليس الدولي يطلبنا لتقديمنا للمحكمة الجنائية… فليس لنا والله غير البقاء في هذا البلاد. ألْقِ خطابًا، يا سيف الإسلام، وقل للجماهير:
سنحكمكم وتستمر الحياة وإلا سندخل جميعًا دوامة حرب أهلية طاحنة يكون الحكم بعدها لمن نجا من القتل والتقتيل.
ما بين شهري فبراير (شباط) ونوفمبر (تشرين الثاني) 2011، وعلى مدار تسعة أشهر كتب الروائي والقاص المغربي محمد سعيد الريحاني روايته «عدو الشمس البهلوان الذي صار وحشًا»؛ عن أحداث الثورة الليبية، وقد كُتبت الرواية بأسلوب التراجيكوميديا، وهو مصطلح مسرحي يُقصد به امتزاج الضحك مع الدموع أو الألم والحزن مع الفكاهة والمرح، ولكن ثمة ما هو كامن في هذا المصطلح والذي عبر عنه الريحاني ببراعة في روايته، وهو السخرية المرة التي تدفعك دفعًا إلى الإحساس بعدم قيمة الأشياء.
في هذه الرواية يرصد الكاتب الثورة كما يراها العقيد من مخبأه؛ يعزي الفوضى التي ألمت بالبلاد إلى المظاهرات الشعبية وليس إلى قبضته الاستبدادية، وعدم وجود مؤسسات في ليبيا كما هو الحال في مصر وتونس، وعلى خلفية تلك الفوضى نرى اندلاع الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي الطامع في توزيع حصص الثروات النفطية، ونرى العقيد لا يتزحزح عن موقفه قيد أنملة إذ خطب في الناس قائلًا: «الثورة تقوم مرة واحدة وقد قامت في الفاتح من سبتمبر (أيلول) وانتهى التاريخ ولم يعد ثمة مجال لا للثورات ولا للاختلاف، اقرأوا الكتاب الأخضر ففيه نواميس الكون، عن أي ثورة جديدة تتحدثون؟».
4- «كان الرئيس صديقي».. كيف رأى ضابط الشرطة الثورة السورية؟
كنت قد عاهدت نفسي أن أبقي هذه الحكاية طي الكتمان، خصوصًا وأن حياتي التي أمضيت أكثر من ثلثيها في السلك العسكري علمتني أن أكون كتومًا، ولكنني أجد نفسي ملزمًا أمام ثورة الناس، أن اعترف على سبيل طلب الغفران من نفسي التي أخجل منها أحيانًا، لدرجة أنني أتحاشى النظر إلى صور الشهداء على شاشات التلفزة.
من واقع أحداث الثورة السورية، تطل علينا هذه الرواية التي كتبها المؤلف السوري عدنان فرزات، ليحكي لنا قصة الضابط راكان ابن البيئة العسكرية الذي كان يحلم بالالتحاق بكلية الفنون؛ ولكنه تحت ضغط والده قرر الإذعان والعمل في السلك العسكري، وأثناء تأدية عمله يُكلف من قبل كبار المسؤولين بمراقبة المثقفين، ومن بينهم فنان تشكيلي يعمل رسام كاريكاتير، يرسم عن الحريات وحقوق الإنسان، وهنا يتذكر راكان حلمه القديم وتنشأ بينه وبين هذا الفنان علاقة صداقة قوية.
فيما بعد، تندلع الثورة السورية ويشارك فيها راكان بعد أن خلع بدلته العسكرية، وهنا يحكي فرزات عن الجماهير التي جابت شوارع المدن السورية، يتقدمهم الفنان السوري وراكان؛ إذ أبدع فرزات حين أخبرنا عن الخلافات التي دبت بين الصديقين؛ ففي الأنظمة الاستبدادية والقمعية لا يوجد ثمة علاقة بين الفنان والسياسي، الذي لا ينسى أبدًا جذوره الاستبدادية.
5- «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» ..مآلات الثورة السورية
يمزج الكاتب السوري خالد خليفة في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»؛ بين الفانتازيا والمرارة المؤلمة، وتحمل أحداث الرواية بين طياتها الكثير من الإسقاطات الواقعية، مثل الثورة السورية التي تحولت من مسارها السلمي إلى حرب طائفية أهلية طاحنة.
وعلى عكس الروايات التي تحدثت عن الربيع العربي، باعتباره لحظة تاريخية فريدة اقتطعت من تاريخ البلدان العربية، ربط خليفة بنوع كبير من النضج الفني بين ما آلت إليه ثورة سوريا وبين سيرة بلد أنهكتها الهزائم والخيبات المتتالية، بدءًا من تولي الرئيس حافظ الأسد مقاليد الحكم في سوريا.
التليفزيون بث صوره وخطاباته القديمة، استضاف مئات الأشخاص عددوا خصاله، ذكروا ألقابه اللامتناهية بخشوع كبير، الأب القائد، قائد الحرب والسلام، حكيم العرب، الرياضي الأول، القاضي الأول والمهندس الأول..
ويشعرون بغصة كبيرة لأنهم لم يقولوا الإله الأول. تطوف بنا أحداث الرواية سريعًا في فلك الفترة التاريخية، ما بين سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في سوريا سنة 1963، وحتى موت الرئيس حافظ الأسد في عام 2000، عن طريق تتبع سيرة عائلة حلبية، المكونة من الراوي وأخته سوسن وأخيه رشيد، إذ ولد الراوي في نفس الأسبوع الذي قام فيه حزب البعث بالاستيلاء على السلطة.
وقد اختار الكاتب مصائر فجائعية مؤلمة لجميع شخوص روايته، ليعكس عمق الفجيعة التي تحياها سوريا، في إشارة إلى أن رماد المجتمع كان يحمل تحته الكثير من الجمر المتقد الذي سببه الاستبداد والقهر والظلم السياسي؛ إذ أن العنف الذي يحضر بقوة في المشهد السوري ماهو إلا أحد تجليات العمق الضارب بقوة في شروخ هذا المجتمع.