مختار الدبابي
جدل واسع في تونس حول مبررات الاعتماد على قيادات من الجيش في وزارات حيوية مثل الصحة والفلاحة، فهل أن الأمر مرتبط بخيار عسكرة المؤسسات والتحكم فيها، أم أنه ضمن خطة لتفعيل عمل الوزارات والقطع مع الفوضى التي سادت منذ أكثر من عشر سنوات.
وينظر إلى المؤسسة العسكرية في تونس على أنها كيان معلق في السماء، يُطلق عليها المديح والثناء، ولا يراد لها أن تتدخل في الحياة العامة. في احتجاجات نهاية 2010 وبداية 2011، تغنى المتظاهرون ضد نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بمؤسسة الجيش لكونها وقفت على الحياد.
رووا قصصا وحكايات وتسريبات مفادها أن الجيش وقف في صف المواطنين، وأنه لم يشأ أن ينفذ تعليمات تأمره بالتصدي للمحتجين ووقف موجة التظاهرات التي امتدت سريعا من الوسط إلى العاصمة تونس. قدموا له الورود وأخذوا مع بعض عناصره صورا للذكرى، اعترافا بإسناده للثورة.
ما الذي تغير ليصبح تعيين وزير للصحة أو الفلاحة من المؤسسة العسكرية خطرا يتهدد مدنية الدولة، أو وصف المؤسسة بأنها عصا غليظة في يد مؤسسة رئاسة الجمهورية.
في تونس احتكار قاتل، يجمع كل المنافع في يد مجموعة قليلة من النافذين، ويذهب ضحيته صغار المزارعين، الذين بات الكثير منهم يفكر في ترك عمله والبحث عن مصدر رزق آخر
من الواضح أن الرئيس قيس سعيد يلتجئ إلى المؤسسة العسكرية وفق رؤية خاصة به تقوم على فكرة أن هذه المؤسسة تمتلك القدرة على اتخاذ القرار والحسم السريع لأيّ قضية بدلا من تعيين وزراء أو مسؤولين مدنيين في ظل حالة الانفلات العامة التي تعيشها البلاد.
ورأينا خلال أزمة الجائحة أن تعيين وزير للصحة من المؤسسة العسكرية قد ساعد على تجاوز الأزمة، من خلال توفير الأمصال التي كانت مفقودة، وفي نفس الوقت تم تنظيم عملية التلقيح على مستوى البلاد بانسيابية كبيرة، سهّلت خروج البلاد من الأزمة بأخف الأضرار.
كما أن زير الصحة علي المرابط قد نجح في تغيير المناخ العام داخل وزارة توجه لها انتقادات كبيرة بسبب ما يوصف بحالة التسيب الإداري والمهني واللامبالاة تجاه المرضى.
ويمكن متابعة شكاوى الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، أو الاستماع إلى حكاياتهم في الواقع لنقف على حقيقة أن الوزارة التي يفترض أنها تقدم أهم الخدمات للناس قد تسرّبت إليها الفوضى التي عمت البلاد منذ 2010 وكثرت الإضرابات والاعتصامات ما أثر على الأداء الذي كانت تقدمه لفائدة الناس قبل الثورة.
وجود وزير من المؤسسة العسكرية الهدف منه فرض الانضباط واستخراج ما أمكن من طاقات العمل وتوظيفه وتفكيك شبكات الفساد والمحسوبية وضرب اللوبي البيروقراطي الذي يتوسل بكل السبل لمنع أيّ تغيير يستهدف نفوذه.
وقبل تعيين علي المرابط على رأس وزارة الصحة، فاض الكثير من الحديث والتقارير عن الفساد في الوزارة، وعن سرقة الأدوية وتعطيل الأجهزة الطبية ودفع المريض إلى القطاع الخاص، فضلا عن ظواهر أخرى منها تهريب الأدوية إلى ليبيا في خضم الحرب الأهلية. كل هذه القصص تراجعت تماما، والسبب وجود شخصية قوية تتابع التفاصيل المختلفة وتشعر العاملين بأن سيف القانون موجود، وأن الوزارة لن تتسامح في المستقبل مع الفوضى السابقة.
اختفى نفوذ النقابات تماما التي سيطرت على قرار الوزارة قبل ذلك بسبب ضعف الشخصيات المكلفة بإدارتها، أو خوفها من الإضرابات وتعطيل العمل. كانت بعض النقابات ترفض تعيين مدير جديد في مستشفى من مستشفيات البلاد إذا لم يكن يتماشى مع خططها ولا يعترف لها بالنفوذ، أو أطلق تصريحات توحي بجديته في فتح ملفات الفساد والمحسوبية.
لكن وجود وزير للصحة من المؤسسة العسكرية لا يعني أن القطاع سيتعافى تماما، فهناك مشاكل تتعلق بالتمويل، خاصة شراء الأجهزة الحديثة وتوفير الأدوية، وكلها تتعلق بالمالية العمومية في وضع مالي صعب.
وليس هناك شك في أن وزارة الفلاحة تحتاج بدورها إلى شخصية قوية لإدارتها في الوضع الحالي الذي يتسم باحتكار مواد ضرورية مثل الحليب والبيض ولحوم الدجاج، وخاصة موضوع الأعلاف، وفهم سر تراجع قطيع الأبقار وسط تفسيرات متناقضة يجري تداولها.
وكان الرئيس سعيد قد عين أمير اللواء منعم بلعاتي المتفقد العام للقوات المسلحة وزيرا للفلاحة، في خطوة قال مراقبون إنها ستساعد على تفكيك مجموعات النفوذ المختلفة داخل هذه الوزارة، والتي تتهم بالوقوف وراء أزمة إنتاج اللحوم والبيض والألبان، بهدف إدامة الأزمة وإثارة الغضب في الشارع على الرئيس سعيّد وحكومته.
ويلعب قطاع الزراعة دورا حيويا في تونس، وهو القطاع الثاني بعد السياحة من حيث عدد العاملين. وبالرغم من وجود أزمة عالمية ساهمت في ندرة بعض المنتجات وارتفاع الأسعار، إلا أن التونسيين يعرفون أن أزمة قطاع الفلاحة تعود بشكل أساسي إلى الاحتكار، وهو وضع عاشوا تحت تأثيره خاصة بعد الثورة في غياب رقابة الدولة، وقد بات المحتكرون يتجرؤون عليها ويتحدّونها.
ويثير تواصل غياب بعض المواد الاستهلاكية الأساسية في الأسواق التونسية، على غرار الزيت النباتي والسكر والحليب والقهوة، جملة من التساؤلات لدى المواطنين بشأن جدية السلطات في محاربة الاحتكار ومراقبة مسالك التوزيع.
وقد وجه الرئيس قيس سعيد في أكثر من مرة نداء إلى المسؤولين من أجل أن “يتحمّلوا مسؤولياتهم في مواجهة المحتكرين الذين يريدون التنكيل بالشعب وخاصة بالنسبة إلى مسالك التوزيع التي صارت مسالك لتجويع الشعب التونسي وليقايضوه بقوته”.
من الواضح أن الرئيس قيس سعيد يلتجئ إلى المؤسسة العسكرية وفق رؤية خاصة به تقوم على فكرة أن هذه المؤسسة تمتلك القدرة على اتخاذ القرار والحسم السريع لأيّ قضية
لا حل لضرب المحتكرين إلا بوجود شخصية قوية لا تخضع للتهديدات أو الإغراءات والوساطات. ويمكن أن تلعب شخصية عسكرية قوية هذا الدور خاصة أن جزءا من قوّتها تستمده من الموقف الحكومي، ومن الرئيس سعيد بصفة مباشرة، وهو مواجهة المحتكرين في أهم قلاعهم، أي قطاع الفلاحة.
في تونس احتكار قاتل، يجمع كل المنافع في يد مجموعة قليلة من النافذين، ويذهب ضحيته صغار المزارعين، الذين بات الكثير منهم يفكر في ترك عمله والبحث عن مصدر رزق آخر، خاصة بعد أن تراجع الدعم والتسهيلات التي كانت تقدمها الدولة لهم قبل 2010. قد تكون مساعدات محدودة، ولكنها دائمة ومتنوعة بالشكل الذي يحمي المزارعين من الخسائر خاصة في مواسم الجفاف.
ولعل الأزمة الأكبر التي لم تلق لها الحكومات المتتالية بالا هي قضية الأعلاف، التي تورّدها الدولة وتوزعها على المزارعين بأسعار مدعومة ويقدر عليها صغار المزارعين. الآن صار الأمر مفقودا تماما، فالأعلاف التي تشتريها الدولة محدودة، وفي نفس الوقت يضع المحتكرون أيديهم عليها، ويبيعونها بأسعار خيالية، وهو ما يوجه ضربة للمزارعين ومواشيهم.
وفي ظل الجفاف تواجه البلاد صعوبات في الزراعات العلفية ونقصا في إنتاج القمح والشعير، وهو ما يفسر تهريب الأبقار إلى الجزائر، وارتفاع أسعار لحوم الأبقار والضأن والماعز.
ومن حق رئيس الجمهورية أن يتخذ كل الخطط التي تساعد على مواجهة هذه الأزمة. فقد يكون وجود شخصية عسكرية حلا في هذه المرحلة، لكنه لا يعني بأيّ حال التشجيع على عسكرة مؤسسات الدولة. وفي كل الحالات فإن المؤسسة العسكرية التونسية عقيدتها مدنية وهي أبعد عن الصراع على السلطة.
لكن أيهما أجدى شخصية عسكرية حازمة لتصويب الأوضاع أم قيادة مدنية تفتح الباب للفوضى النقابية والمطلبية التي تعوق أي تطوير؟
المصدر العرب اللندنية