منتصر حمادة
كاتب مغربي
معلوم أنّ مصطلح ما بعد الإسلام السياسي، أو “ما بعد الإسلاموية”، أثير منذ عقدين على الأقل في مضامين أعمال عدة أسماء يتقدمها الثلاثي آصف بيات من إيران، وأوليفيه روا من فرنسا، والراحل حسام تمام من مصر، وإن اختلفت عناوين التقييم، بين حديث الأول عن “ما بعد الإسلاموية”، وحديث الثاني عن “فشل الإسلام السياسي”، وحديث الثالث عن “نهاية الإيديولوجيا” [الإخوانية].
واضح أنّه ثمّة عدة قواسم مشتركة بين هذه الأسماء، أقلها جرأة الخوض في هذا الموضوع الحساس أو الإشكالي، خاصة أنّه لا يصبّ في مصلحة خطاب الإسلاموية السائدة في المنطقة العربية، بل لا يصب حتى في مصلحة الأسماء الإيديولوجية التي تشتغل على الظاهرة الإسلاموية من خارج الانتماء الإيديولوجي، من قبيل تيار “يسار الإخوان”، ضمن أمثلة أخرى.
على أنّ هناك قاسماً مشتركاً آخر بخصوص الترويج لهذا المصطلح، عنوانه صدوره من خارج المرجعية الإسلاموية، وقد كان هذا القاسم المشترك بوابة للتقزيم من خطاب هؤلاء، ويمكن التأكد من ذلك من خلال الاطلاع على صورة هذا الثلاثي في أدبيات إسلاميي المنطقة، أو لدى أقلام الإسلاموية بشكل عام، في الإعلام والبحث العلمي، بما في ذلك صورة الثلاثي في ما يصدر عن مراكز “أسلمة المعرفة”.
إذا سلّمنا بأنّ الثلاثي، آصف بيات وأوليفيه روا وحسام تمام، يُروّج لخطاب ما بعد الإسلاموية أو فشل الإسلام السياسي، من خارج المرجعية الإسلاموية، فإنّ الأمر مختلف كليّاً مع أعمال الثلاثي فريد الأنصاري وعمر العمري ومحمد لويزي
صنّف آصف بيات “ما بعد الإسلاموية” في مقام انحسار حركات الإسلام السياسي أو تراجعها الميداني، متحدثاً في مقالة له بعنوان “ظهور مجتمع ما بعد الإسلاموية ـ مثال إيران” عن تبعات اصطدام التجارب الإسلاموية بالواقع؛ ممّا نتج عنه نماذج فاشلة نجدها في إيران، والسودان، وباكستان، مع التذكير بأنّ مقاله هذا ـ والذي سيكون أرضية كتاب سيصدر لاحقاً ـ مؤرخ في 1996، أي قبل منعطف اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ومن باب أولى، قبل منعطف أحداث “الفوضى الخلاقة” (2011ـ 2013)، أو أحداث “الربيع العربي”، بتعبير الأقلام الإسلاموية وأقلام “يسار الإخوان”.
يرى آصف بيات أنّ حالة “ما بعد الإسلام السياسي” ليست مجرد شرط، بل هي مشروع أيضاً، يروم وضع تصور واستراتيجية لمنطق وطرائق السمو على “الإسلام السياسي” في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويجد المشروع ذاته في العديد من الممارسات الاجتماعية المختلفة، والأفكار السياسية، ومن هنا سهولة تصنيف العديد من مراكز أسلمة المعرفة في نسختها الثانية ضمن هذا الأفق النظري الذي تحدث أو تنبأ به آصف بيات.
لم يختلف أوليفيه روا كثيراً عن طرح آصف بيات، حتى إنّه تحدث في عنوان أحد أعماله الذي يهمنا في المقالة عن “فشل الإسلام السياسي”، وصدر كتابه هذا بالفرنسية عام 1992، قبل صدور النسخة المترجمة إلى العربية (ترجمة: نصير مروة، عن دار الساقي)، وقد كرّر الطرح نفسه في كتابه اللاحق الذي يحمل عنوان “عولمة الإسلام” (صدرت ترجمته عن دار الساقي عام 2003، أنجزتها لارا معلوف، وإن خصّ بالذكر هنا حتى الحركات الإسلامية الجهادية، وليس المشروع الإخواني وحسب، بصرف النظر عن القواسم والفوارق بين مُجمل هذه التنظيمات.
أمّا حسام تمام، الأقرب جغرافياً إلى المنطقة العربية لأنّه ابنها، إضافة إلى أنّه كان متابعاً عن قرب لأداء العديد من إسلاميي المنطقة، فله كتاب شهير في هذا السياق، صدر في عام 2006، أي (5) أعوام قبل اندلاع أحداث “الفوضى الخلّاقة”، بعنوان: “تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم”، عن مكتبة مدبولي القاهرية، والكتاب كما يبدو من عنوانه، والأحرى مضامينه، خارج دائرة التأمل والتفكير في أدبيات إسلاميي المنطقة، وخاصة التيار الإسلامي المعني أكثر بالعمل السياسي، وما زال الأمر كذلك، حتى بعد التحولات الميدانية الجلية التي كشفت عنها أحداث الفوضى سالفة الذكر، وليست الانقسامات القائمة بين الرموز الإخوانية، في تركيا على سبيل المثال، سوى تطبيقات ميدانية لما توقف عنده تمام منذ عقد ونصف.
موازاة مع هذه الأعمال الصادرة، كما سلف الذكر، عن أسماء بحثية من خارج المرجعية الإسلاموية، صدرت مجموعة من الأعمال عن أسماء كانت تنتمي إلى المرجعية نفسها، لكنّها أخذت مسافة نظرية أو مسافة تنظيمية من المشروع، أو من كليهما معاً، من قبيل ما صدر عن الثلاثي المغربي، الراحل فريد الأنصاري صاحب ثلاثية “البيان الدعوي”، و”الأخطاء الـ (6) للحركة الإسلامية بالمغرب” و”الفِطرية”، أو عمر العمري صاحب رواية “كنت إسلامياً”، وهي سيرة ذاتية أكثر منها رواية، ثم محمد لويزي صاحب كتاب “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين”، (صدر الكتاب بالفرنسية، ولم يُترجم بعدُ إلى العربية، ومن سابع المستحيلات أن نقرأ إحالة على الكتاب في مقالات ودراسات ومؤلفات مراكز “أسلمة المعرفة” التي يزعم العديد من أقلامها أنّه لا تجمعهم علاقة بالمرجعية الإسلاموية أو أنّهم ابتعدوا عنها، وما جاوز هذا الخطاب). والحديث هنا لا يتجاوز (3) أسماء تهم منطقة جغرافية محددة، والأحرى أمثلة في المغرب أيضاً، أو لائحة من الأسماء داخل وخارج المنطقة العربية.
*قزّمت أقلام الإسلاموية، في المنابر الإعلامية والمراكز البحثية، كثيراً من الخطاب البحثي الذي توقع الحالة ما بعد الإسلاموية، سواء صدر الخطاب نفسه عن أقلام من خارج المرجعية الإسلاموية أو من داخلها*
إذا سلّمنا بأنّ الثلاثي، آصف بيات وأوليفيه روا وحسام تمام، يُروّج لخطاب ما بعد الإسلاموية أو فشل الإسلام السياسي، من خارج المرجعية الإسلاموية، حسب تبريرات الأقلام الإسلاموية، بالتالي إزاء اعتراض إيديولوجي يروم التقزيم من مضامين أعمال هذا الثلاثي، فإنّ الأمر مختلف كليّاً مع أعمال الثلاثي فريد الأنصاري وعمر العمري ومحمد لويزي، بصرف النظر عن بعض الملاحظات النقدية حول بعض مضامينها.
ليس هذا وحسب، فإذا كانت نسبة من أقلام الإسلاموية قد قزّمت من تحذيرات فريد الأنصاري، وهو أحد رموز حركة “التوحيد والإصلاح” الإخوانية قبل انفصاله عنها، على اعتبار أنّها صدرت في حقبة ما قبل أحداث 2011 التي تميزت بفوز إسلاميي المنطقة في العديد من الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبالتالي لم يكن موفقاً في رؤاه النقدية من وجهة نظر هؤلاء، فالأمر مختلف مع حالة رواية “كنت إسلامياً” لعمر العمري، و”لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين” لمحمد لويزي، لأنّ الأمر يتعلق بعملين صدرا في حقبة تصدي الإسلاموية العربية للمشهد السياسي والحزبي في المنطقة العربية، فقد صدرت رواية العمري في عام 2014، بينما صدر كتاب لويزي في عام 2016، كما لو أنّنا إزاء أعمال تغرّد خارج السرب البحثي والإعلامي، من فرط الدعاية التي كانت تحظى بها الإسلاموية في تلك الحقبة، وليس مصادفة قط أن تتميز أعوام ما بعد 2011 بتأسيس أغلب مراكز أسلمة المعرفة السائدة اليوم، إمّا عن أقلام إخوانية، وإمّا عن أقلام سلفية، وإمّا عن أقلام قادمة من المَجَرة الإسلاموية بشكل عام.
قزّمت أقلام الإسلاموية، في المنابر الإعلامية والمراكز البحثية، كثيراً من الخطاب البحثي الذي توقع الحالة ما بعد الإسلاموية، وما أكثر المبررات التي رفعتها في سياق ذلك التقزيم! سواء صدر الخطاب نفسه عن أقلام من خارج المرجعية الإسلاموية أو من داخلها، لكنّ واقع الحال خلال الأعوام الأخيرة أفضى إلى تأييد مضامين الخطاب نفسه، أقله متابعة موجة الاستقالات من التنظيم، خاصة من فئة الشباب والنساء، أو ما نعاينه مع كثرة الانقسامات والصراعات بين الرموز والقيادات الإخوانية، فالأحرى تراجع شعبية الإسلاموية بشكل عام، ضمن مؤشرات أخرى، وكان حريّاً أن تكون مجمل هذه المؤشرات فرصة لكي تراجع الأدبيات الإسلاموية نفسها، بخصوص علاقتها مع مجتمعات وأنظمة المنطقة، والأحرى علاقتها مع العالم، ووحدها تطورات الساحة كفيلة باختبار حقيقة هذه المراجعات، إن صدرت أساساً.
نقلاً عن حفريات