كريتر نت – متابعات
كلما اقتربت الأزمة السياسية في السودان من نهايتها إلا ويخرج قائد الجيش عبدالفتاح البرهان عن الإجماع بوضع شروط جديدة. ويقول مراقبون إن سلوك البرهان يخرج للعلن مخاوفه من فقدان مركزيته بمجرد نقل السلطة إلى المدنيين.
أعاد اشتراط رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان دمج قوات الدعم السريع في الجيش للاستمرار في الاتفاق الإطاري، الأزمة السودانية إلى المربع الأول، حيث تحتاج هذه الخطوة التي يتحفظ عليها نائبه وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى المزيد من الجهود لتطبيقها على الأرض.
ووضع الشرط المفاجئ الذي أعلنه البرهان العصي بين عجلات اتفاق شهد دعما سياسيا الأيام الماضية، ونشاطا أوحى بعزم قوى إقليمية ودولية عديدة على تحويله إلى اتفاق نهائي قريبا، يمكنه فرملة التداعيات السلبية في البلاد.
وتسربت معلومات أخيرا حول التوصل إلى اتفاق سياسي بين الموقعين على الاتفاق الإطاري وغير الموقعين عليه، ما وفر أجواء بأن الجيش السوداني اقترب موعد رحيله عن السلطة، والذي يعد أحد أهم شروط الاتفاق الإطاري.
وفسرت قوى مدنية سودانية كلام الجنرال البرهان بشأن دمج قوات الدعم السريع بأنه يندرج في إطار ما يوصف بـ”الألاعيب” السياسية والتناقضات التي تظهر في بعض أحاديثه، عندما يشعر بالقوة المعنوية أو عندما تبدو العملية السياسية تسير بوتير جيدة، فيطلق قنابل الدخان في الهواء للتغطية على أي تطورات إيجابية تبعده عن السلطة أو مداراة انقسامات حادة داخل المؤسسة العسكرية.
وأوضح المحلل السياسي السوداني محمد تورشين لـ”العرب” أن كلام البرهان يعكس تباينا في وجهات النظر مع حميدتي، وداخل الجيش، والأوضاع متوترة حاليا من وجوه مختلفة، وقد يصعب الحديث الآن عن خطة لاحتوائها، وربما تفتح المجال لتوسيع نطاق التباين حول العديد من القضايا السياسية.
وشدد تورشين على أن التعقيدات الطاغية على المشهد تضاعف من صعوبة التوصل إلى تسوية سياسية، لاسيما أن الخلافات داخل الجيش بدأت تخرج إلى العلن، وهو ما يحاول البرهان علاجه خوفا من التداعيات اللاحقة التي قد تضعف مركزيته مع توالي التحركات الدولية الراغبة في إيجاد مخرج مناسب للأزمة في السودان.
ومع أن حديث البرهان جاء في خضم خطاب ألقاه الخميس في منطقة الزاكياب بشمال الخرطوم، إلا أن إشارته إلى الدمج بدت الرسالة الأهم في الخطاب العام، لأنها تنطوي على أهداف متعددة، أبرزها أن المؤسسة العسكرية غير مرتاحة للتدخلات الخارجية الداعمة للقوى المدنية وغير مستعدة لتسليم السلطة حاليا.
وبدت إثارة ملف دمج قوات الدعم السريع ومعها الحركات المسلحة في الجيش بذريعة الالتزام بالاتفاق الإطاري قفزة متعمدة، لأن الخطوة تلقى مماطلة من حميدتي، فهي ورقته الرابحة التي لا يريد التخلي عنها في وقت لا تزال الحسابات السياسية معقدة.
كما تلقى الخطوة تحفظا من قبل قادة الحركات المسلحة الذين انخرطوا في السلطة وأسندت إليهم مهام كبيرة عقب التوقيع على اتفاق جوبا للسلام، وذلك لأن تحييد قواتهم العسكرية في هذه المرحلة ينزع منهم أهم أسباب قوتهم السياسية، وإذا جرى التخلي عن العناصر المسلحة بدمجها في الجيش تسقط الورقة ويصعب استثمارها لاحقا.
وقال البرهان “إذا كان هناك كلام واضح ومقنع عن دمج قوات الدعم السريع ودمج الحركات المسلحة في الجيش، فنحن بلا شك سنمضي في الاتفاق الإطاري”.
وذكرت دوائر معارضة أن هذا الشرط يعني الابتعاد عن المسار السياسي وحرف التطورات إلى طريق طويل من الجدل، مع التباين الظاهر في تقديرات غالبية الأطراف حول الدمج وتوقيته وأهدافه وحدوده والآليات التي يجب أن يستند عليها.
وجرى تشكيل قوات الدعم السريع في عهد الرئيس السابق عمر البشير بغرض محاربة المتمردين في إقليم دارفور، وحماية الحدود الغربية للسودان وحفظ النظام لاحقا، ومنذ عام 2013 أصبحت تابعة لجهاز الأمن والمخابرات، ويحتفظ قائدها حميدتي بقدر كبير من الاستقلال داخل المؤسسة العسكرية منحه هامشا للمناورة.
وأشار قائد قوات الدعم السريع في وقت سابق إلى أنه لا يمانع دمج قواته في الجيش السوداني في إطار إصلاح أمني شامل، ما يعني أن قواته تظل على حالها من الاستقال إلى حين الوفاء بشرط القوى المدنية الخاص بإجراء إصلاحات هيكلية في المؤسسة الأمنية بفرعيها الشرطي والعسكري، وهي عملية معقدة تحتاج إلى المزيد من الوقت وتتعارض مع مصالح قيادات أمنية كبيرة لا تريد التفريط في نفوذها.
وتعد هيكلة القوات النظامية والأمنية في السودان وابتعادها عن السياسة واحدة من أهم قضايا الفترة الانتقالية العالقة التي تطالب بحلها القوى المدنية في البلاد.
المؤسسة العسكرية غير مرتاحة للتدخلات الخارجية الداعمة للقوى المدنية وغير مستعدة لتسليم السلطة حاليا
ويقول متابعون إن كلام البرهان بشأن الدمج شرط “تعجيزي” هدفه التنصل من بنود الاتفاق الإطاري، ويخلق معركة “مفتعلة” بينه ونائبه تصب في صالحهما، حيث تحوّل الدفة عن الأزمة السياسية التي توشك بعض القوى الدولية على تفكيكها، وتعيد إلى الأضواء إشكالية أو أزمة البرهان – حميدتي التقليدية، والتي يتم اللجوء إليها عندما يريد أحدهما أو كلاهما الهروب إلى الأمام أو خلط أوراق اللعبة السياسية.
وأشار متابعون آخرين إلى أن صبر الجيش بدأ ينفد إزاء حالة العبث السياسي التي تخيم على الساحة مع تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، ما يفتح الباب لإفشال عملية سياسية تصر بعض الأطراف الرئيسية فيها (قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي) على تهميش قوى أخرى (قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية).
وعدّد البرهان مزايا وثوابت الجيش السوداني بأنه “عريق.. وبعيد عن السياسة.. ويخلو من الكيزان (الإخوان)”، وكلها مفردات تعمد استخدامها لتحمل إيحاءات بأنه لا يسعى إلى السلطة أو يخدم أجندات معينة أو يريد تخريب العملية السياسية.
لكن من تابعوا خطابه استشفوا أن كل الإسقاطات التي أردها يمكن أن ترتد عليه، فالطريقة التي أثير بها ملف الدمج لا تعني فقط وجود أزمة مع حميدتي وصراع على النفوذ، بل تكشف عن تراجع في مستوى التفاهم حول الدور الذي يقوم به كلاهما.
ويمكن أن تؤدي هذه الازدواجية إلى انقسام واسع داخل المؤسسة العسكرية، بين الجيش النظامي والعناصر المسلحة غير النظامية وتدرج بينها قوات الدعم السريع وجميع الحركات المسلحة، ما يدخل البلاد في دوامة حاولت قوى كثيرة تجنبها.