كريتر نت – متابعات
عندما أعلنت روسيا تقليص إمداداتها من الغاز الطبيعي لأوروبا إلى أقل من النصف، سارع محللون وسياسيون أوروبيون للتحذير من انقطاعات الكهرباء ودخول الدول الأوروبية في ركود اقتصادي قاتل قد يخلف مظاهرات عنيفة تسقط العديد من الحكام.
لكن كل هذه السيناريوهات السوداء لم تحدث على الأقل بتلك الحدة المتوقعة، بعدما تجاوزت أوروبا ذروة الشتاء، بينما مخزوناتها من الغاز ممتلئة أكثر من شتاء العام الماضي، وتراجعت أسعار الغاز إلى أقل مما كانت عليه في الصيف الفائت، ما يعني أن أوروبا انتصرت على روسيا في “حرب الغاز”.
ويدعو ذلك إلى التساؤل كيف تمكنت الدول الأوروبية من تغطية التراجع الحاد في صادرات الغاز الطبيعي الروسي في فترة وجيزة رغم أنها كانت تمثل نحو 40 في المئة من احتياجات القارة؟
ومع ذلك حذرت وكالة الطاقة الدولية من أن أزمة الغاز “لم تنته”، في إشارة إلى أن الحظ قد لا يحالف الأوروبيين مجددا في الشتاء المقبل.
ولعب الحظ دورا غير متوقع، فأوروبا تشهد طقسا معتدلا وأقل برودة مما اعتادت عليه خلال أعوام طويلة، وساهم ذلك في تراجع الطلب على استهلاك غاز التدفئة والكهرباء.
ووفق وكالة الطاقة الدولية، انخفض الطلب على الغاز في دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 20 في المئة في الربع الرابع من عام 2022 مقارنة بالفترة نفسها من 2021.
إذا قلصت موسكو إنتاجها بشكل حاد من صادرات الديزل فمن شأن ذلك رفع الأسعار وخلق أزمة في السوق
ولعب تراجع الطلب دورا رئيسيا في انخفاض الأسعار أقل منه قبل اندلاع الحرب في الرابع والعشرين فبراير العام الماضي.
ففي منتصف يناير الماضي تراجعت أسعار الغاز في أوروبا إلى أدنى مستوى لها منذ سبتمبر 2021.
ولم يكن أكثر القادة الأوروبيين تفاؤلا في الصيف الماضي يتوقعون مثل هذا السيناريو في هذا الشتاء الذي لم يخل من خروج مظاهرات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا احتجاجا على التضخم وارتفاع الأسعار، ولكنها لم تكن بالشكل الذي يؤدي إلى إحداث تغييرات عميقة في سياسات الدول الغربية تجاه الحرب في أوكرانيا كما كانت تأمله روسيا.
لكن سياسات التوعية للحكومات وإجراءات التقشف في استهلاك الغاز سواء بالنسبة إلى الأسر أو الشركات لعبت هي الأخرى دورا في تقليص الطلب.
ولعب الحظ دوره مرة ثانية عندما تسببت موجة جديدة من وباء كورونا في إغلاقات واسعة بالصين، ما أدى إلى تقلص الطلب على الغاز في أكبر دولة مستوردة له في العالم، وسمح ذلك لأوروبا باستيراد شحنات أكبر كان من الممكن ان تتوجه إلى الصين، أو على الأقل أن تؤدي إلى ارتفاع الأسعار أكثر مما عليه.
ولعبت الولايات المتحدة الدور الأبرز في محاولة تعويض نقص الإمدادات من الغاز الطبيعي الروسي عبر الأنابيب من خلال زيادة صادراتها من الغاز الصخري المسال إلى أوروبا عبر السفن.
فبعدما كانت معظم الصادرات الأميركية من الغاز المسال تتوجه إلى الأسواق الآسيوية، أصبحت أوروبا الزبون الأول للغاز الأميركي المنقول عبر السفن.
ولكن زيادة صادرات الغاز الطبيعي عبر الأنابيب من النرويج والجزائر ساهمت أيضا في ملء مخزونات الدول الأوروبية، حيث رفعت النرويج صادراتها إلى الدول الأوروبية بنسبة 8 في المئة أيضا في 2022، وأزاحت روسيا من صدارة موردي الغاز عبر الأنابيب للقارة العجوز.
زيادة صادرات الغاز الطبيعي عبر الأنابيب من النرويج والجزائر ساهمت في ملء مخزونات الدول الأوروبية
ورفعت الجزائر هي الأخرى صادراتها من الغاز الطبيعي والمسال إلى مستوى قياسي لتصل إلى 56 مليار متر مكعب العام الماضي، 80 في المئة منها كانت من نصيب أوروبا وحدها، بزيادة ملياري متر مكعب، حظيت إيطاليا بنصيب الأسد منها.
وتجاوزت الجزائر روسيا من حيث حجم صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا وأصبحت الثانية بعد النرويج.
كما سعت دول أوروبية لزيادة وارداتها من الغاز المسال من أفريقيا خاصة نيجيريا وأنغولا وموزمبيق التي صدرت أول شحنة لها في 2022.
ورغم محدوديته، إلا أن أوروبا استوردت أيضا كميات من الغاز المسال من ليبيا ودول شرق المتوسط.
كما أجلت دول أوروبية خططها لتقليص استخدامها للوقود الأحفوري في إطار الانتقال في مجال الطاقة وتحقيق الحياد الكربوني، إذ رفعت استهلاكها للفحم، فضلا عن التوسع في استخدام الطاقة النووية، ناهيك عن مواصلة مساعيها لزيادة إنتاج الطاقة النظيفة.
وإذا كان 2022 عام “حرب الغاز”، فربما يشهد العام الحالي حرب نفط بين موسكو والاتحاد الأوروبي، بعدما قرر الأخير تسقيف أسعار مشتقات الخام الروسي ابتداء من الخامس من فبراير الجاري. ولم تبق روسيا مكتوفة الأيدي، وهددت بوقف تصدير المشتقات النفطية إلى الدول التي حددت سقفا سعريا.
لا يزال الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عازمين على خنق الاقتصاد الروسي للانسحاب من أوكرانيا
بل ذهبت أبعد من ذلك عندما أعلنت أنها ستخفض إنتاجها النفطي بنصف مليون برميل يوميا، أو ما يعادل نحو 5 في المئة من إنتاجها الإجمالي في مارس المقبل بعد تسقيف الغرب لسعر نفطها.
ودفع هذا الإعلان الذي جاء على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك في العاشر فبراير أسعار النفط للارتفاع في نفس اليوم بأكثر من 2 في المئة.
ويرى خبراء أن أسعار النفط سترتفع فوق 100 دولار للبرميل في العام الجاري مع استمرار التوترات السياسية والأمنية في العالم.
ولكن من المستبعد أن يحدث النفط في 2023 نفس الأزمة التي أحدثها الغاز في 2022، بالنظر إلى سهولة نقله مقارنة بالغاز الذي يحتاج إلى بنية تحتية معقدة لنقله عبر الأنابيب أو سفن خاصة بعد تسييله من بلد المنبع ثم إعادة تغويزه في مصانع خاصة عند وصوله إلى موانئ البلدان المستوردة.
لكن الأسعار ستتأثر بلا شك من فقدان 500 ألف برميل يوميا، خاصة وأن منظمة الدول المصدرة للنفط لا تبدي حماسة في زيادة الإنتاج، ما سيؤدي إلى صعود قوي لأسعار النفط، وقد يدفع واشنطن للضغط مجددا على السعودية ودول الخليج لزيادة الإنتاج.
أما النقطة الأعقد فتتعلق بمشتقات النفط الروسية، خاصة وقود الديزل، فمن الصعب على مصانع تكرير النفط العالمية تعويض النقص في هذا المجال.
فإذا قلصت موسكو إنتاجها بشكل حاد من صادرات الديزل، فمن شأن ذلك رفع الأسعار وخلق أزمة في السوق العالمية، خاصة وأنها أكبر مُصدر للديزل إلى أوروبا، بل إن نصف واردات الديزل الأوروبية تأتي من روسيا.
ولا يزال الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عازمين على خنق الاقتصاد الروسي للانسحاب من أوكرانيا، بينما تستعد موسكو لتعميق جراح أوروبا بتخفيض إمداداتها من الغاز والنفط ومشتقاته لجعلها تدفع ثمن أزمة الطاقة التي ستلتهب في 2023.