ما يحسب لثورات الربيع العربي هو انها انهت زمناً استبد فيه الصوت الواحد ، والرأي الواحد والزعيم الواحد ، وعندما نقول بانتهائه فذاك انه تاريخ مضى وبلا رجعة .
من يعتقد انه بمقدوره وقف عجلة التطور ، أو ان هذه المجتمعات العربية ستظل مجرد خرفاناً الى وقت طلب الزعيم القائد الملهم والضرورة ؛ فذاك شخص يبدو انه مازال مسكونا في حقبة الجماهير الرعاع التي يجب ان تفنى وتهلك في سبيل ان يبقي وينعم الحاكم المستبد .
مثل هذه الديماغوجية سادت خلال الحرب الباردة ، وحتى سقوط جدار برلين ، ومقتل ديكتاتور رومانيا الجنرال ” تشاشيسكو ” وعقيلته في الهزيع الأخير من عام ٨٩م على اثر اندلاع تظاهرة طلابية في جامعة بوخارست العاصمة ؛ لكنها الآن لم يعد لها ما يبررها ، بعد ان سقطت كثير من الأقنعة ، وكثير من الأنظمة القمعية الديكتاتورية ، وكثير من الشعارات والمزايدات .
فالربيع العربي للأسف تخلف زمناً عن خريف عاصف اجتاح دول أوروبا الشرقية ، وأمتد الى اسيا وامريكا اللاتينية ، ووصلت رياحه العاتية الى كافة نواحي البسيطة ، وكان أثره مهولاً وضخماً ، كما وانعكاساته مازالت ماثلة في أكثر من بقعة جغرافية ،وفي ذهن الانسان وذاكرته .
فمن مذبحة ساحة ” تيانانمن ” وسط العاصمة الصينية ” بكين ” للمتظاهرين في يونيو 89م ،الى حروب البلقان ، الى اقتلاع ديكتاتورين فاسدين في إندونيسيا والفلبين ” سوهارتو وماركوس ” على التوالي ، الى فظائع رواندا والكونغو ونيجيريا وكينيا والسنغال وسواها في القارة السمراء ، الى فنزويلا والبرازيل وتشيلي والارجنتين ،الى جورجيا واوكرانيا والقوقاز ، وصولاً الى البلاد العربية التي ما فتأت شعوبها غارقة في أتون انتفاضات وثورات حتى اللحظة الراهنة.
لطالما ظن الحاكم العربي المُتسلِّط انه الوحيد الذي نجا من ذينك الاعصار المُسقط لطغاة ، ولأنظمة ديكتاتورية عتيدة ، لكنها نجاة لم تدم وقتا طويلا ، مثلما ظن مبارك والقذافي وزين العابدين وصالح وبشار ، فبعيد عقدين ونيف على هدم جدار برلين وانتفاضة طلاب جامعة بوخارست ، كان حصاداً مُرَّاً للجمهوريات العائلية المتسلطة بالحديد والنار ، وكان سقوط حكامها مدوياً ومجلجلاً .
فهؤلاء الطغاة الفاسدين ، غفلوا حقيقة انهم اشبه بأوراق خريف صفرت وتحللت ، وكان ولابد ان تسقط في موعدها ، لكنها مع ذلك بقت عالقة متحدية الخريف وإعصاره ،ما جعلها مطمئنة بنجاتها من عاصفة التغيير الواصلة الى كافة ارجاء البسيطة ، فباستثناء الحكام العرب ، يحسب للخريف الاوربي اقتلاع انظمة ديكتاتورية من جذورها ، وتفكيك كيانات سياسية كلاسيكية الى دول ودويلات ما فتأت ماضية في مضمار الحداثة والتطور .
وما يحسب للزمن العربي الجديد – ايضاً- أن ولادته انبلجت من شتاء طال أمده ، وبعد ان خفتت عزيمة النخب في إمكانية تحقيق الحرية والكرامة والعدالة ، وبعد ان اطمأن الحكام المستبدين على ان البلدان التي يحكمونها ، ليست سواء إقطاعيات مملوكة يتشاطرونها مع أولادهم واقاربهم وأصدقائهم ، ودونما أخذهم بالحسبان بان جمهورياتهم العائلية سيأتي عليها دورها عاجلاً أم آجلاً .
كيف لا ؟ وملك ملوك افريقيا القذافي قال لصديقه رئيس جنوب افريقيا ” جاكوب زوما ” حينما توسط الأخير في محاولة لإقناعه بمبادرة حل وسط تحفظ ماء وجهه : ” شعبي يعبدني عبادة ، وهؤلاء الذين في بنغازي ليسوا ليبيين وانما عملاء ومرتزقة ” .
للأسف البعض من المثقفين المهووسين بداء المؤامرة والارتياب من كل عملية تغيير لا تتوافق مع اهوائهم ومصالحهم ، ومن كل علاقة وارتباط بالخارج ، تحولوا الى عرابين للطغاة الفاسدين والقتلة ، فهم لا يرون في ثورات الربيع الَّا خراباً ودماراً وتمزيقاً لأوطان ومجتمعات وجيوش ودول ، ودونما اعتبار لحقيقة الخراب والتمزق والفساد الذي عانت منه المجتمعات العربية وتسبب في هزائمها وتخلفها التنموي والحضاري .
إنَّهم لا يرون في الاحداث المأساوية في سوريا وليبيا واليمن ومصر والعراق سواء أنها نتاج مؤامرة امريكية اسرائيلية بريطانية خارجية ، ولكأنَّ الطغاة الحكام الذين كانوا سبباً رئيساً ومباشراً في كل هذا الخراب والدمار ، ليسوا الَّا أرجوزات تحركها ايادي خفية من وراء ستار .
فبدلا من ان يتحمل طغاة مثل القذافي وبشار وصالح ومبارك وزين العابدين ، وليس اخرهم عمر البشير ، والقائمة طويلة ، مسؤولية القتل والخراب والدمار والإرهاب والفوضى ؛ راح البعض ينسب ما حدث تارة لأمريكا وإسرائيل ، وأخرى بكونه مؤامرة دولية غايتها بقاء العرب في زاوية الفقر والجهل والتخلف ، ودون حمل الانظمة الفاسدة والقمعية مسؤولية تبديد مواردها وثروتها ومقدراتها وحتى فرصها في التنمية والاستقرار.
الحقيقة ان الربيع العربي تأخر عقودا عن موعده ، ومع توق مجتمعاتنا وفاقتها الشديدة للتغيير الحقيقي الجذري الذي يمكنها من اللحاق بركب الحضارة الانسانية ، هناك من يلقي بالمآسي والكوارث الحاصلة على كاهل الثورات ، وهذه مغالطة تاريخية يراد منها تشويه الثورات الشعبية السلمية ، كفعل ديمقراطي وحضاري ومدني ، واحالته أنظمة الحكم المستبدة والفاسدة الى عنف وخراب وقتل ونزوح وارهاب .
كاتب خليجي مغمور ركب موجة الثورة المضادة ، تأسياً بحكام بلاده المنافحين بكرم وبذخ لإسقاط وافشال الثورات العربية وفي أكثر من قطر ، هذا الكاتب له رواية اسماها ” الربيع الأسود ” ومعه كل الحق اذا ما وصم ثورات الربيع العربي بالسوداوية ، فمثله ينطبق عليهم وصف الراحل ادوارد سعيد ب” خيانة المثقفين ” ، فهذا المتزلف المنافق غفل او ربما تناسى بكونه يقف في المكان الخاطئ ، وبعيداً عن ملامسة اوجاع المجتمعات الثائرة .
اتعجب واتحسر من تحميل الثورات وزر الخراب والدمار والقتل والدم ! كأن ما فعله ويفعله الحكام العرب لهو شيء مشروع ويستحق الاحتفاء والتباهي به ؟ . لهؤلاء اقول : ان اجمل وافضل ما فعلته مجتمعاتنا المقهورة المستعبدة ،هو ثوراتها النبيلة السلمية المتحضرة ، ويجب ان تفخر بها اجيال الحاضر والمستقبل ، أما مآلاتها العنيفة المهلكة فيقع وزرها على حكام اصابتهم السلطة بالهوس والجنون ، وكان ولابد من اسقاطهم ورحيلهم وبثورات شعبية غير مسبوقة في التاريخ .
والسؤال الأكثر الحاحاً وفضولاً : علام كانت ثورات الشعوب طوال تاريخها الانساني ؟عشرون عاماً استغرقت ثورة امريكا ، وعشرة اعوام في فرنسا ، وستة اعوام في روسيا ، وخلفت تلك الثورات ملايين القرابين ، احد عشر مليونا فقط ، كان نصيب الروس خلال الحرب الاهلية .
وأجزم ان مجتمعاتنا العربية ثارت لإسقاط هؤلاء الطغاة الفاسدين ، واذا لم تكن ثوراتها ربيعاً لمستقبل الاجيال القابلة ، وخريفاً لسقوط الطغاة الفاسدين ، فعلام إذن ثارت وانتفضت ؟ ومن اجل ماذا كل هذه القرابين والتضحيات ؟ .فسلام لثورة 11 فبراير في ذكراها الثامنة ، وطوبى لكل الشهداء الميامين الاحرار ..