حسن إسميك
كلما حاولنا أنسنة تاريخنا لنفهمه كما ينبغي، وكما هو عليه بكل موضوعية على الأقل، ولست أطالب هنا بالحياد، يأتي من يحاول نزع هذه الأنسنة عنه. والمشكلة أن نفي الأنسنة عن بعض ما في تاريخنا الإسلامي يتخذ أحد شكلين اثنين أحياناً، وكليهما غالباً، فإما تقديسه ليصبح خطاً أحمر ممنوع اللمس والنقد والمراجعة والتصويب، وإما شيطنته ليصبح مرتعاً خصباً للانحياز والتعطيل، والتجهيل، وقلب الحقائق، وتشويهها.
والغالب أن كل تقديس يُسبَغ عل حوادث وأشخاص “تاريخيين” ستقابله شيطنة لحوادث وأشخاص آخرين، إذ لا يمكنك أن تدّعي المقدس لتوهم الناس به إلا إذا عمدت إلى مقابلته مع المدنّس، كما لا يمكن أن توهم الناس بما تدّعيه “خيراً” إلا حين تقابل به “شراً” تصطنعه فتجعله نقيضه. وبذلك يصبح التقديس والشيطنة فعلين متضايفين كلما حضر أحدهما كان الآخر حاضراً أيضاً.
خلال رمضان الذي بات على الأبواب، وفيه تنشط الدراما العربية في سباق فني إبداعي، كنت قد تناولت بعض مزاياه في مقالة سابقة، سيُعرض مسلسل “معاوية” الذي أنتجته مجموعة (MBC) بموازنة ضخمة وغير مسبوقة عربياً بلغت 100 مليون دولار. هذا مجرد خبر كان من الطبيعي له أن يمر عادياً كغيره من أخبار التسويق الفني لأعمال الموسم الرمضاني، بخاصة أن الأعمال التاريخية غالباً ما تحظى بمكانة مميزة خلال الشهر الفضيل، وهذا ما أتاح لنا متابعة بعض المسلسلات التاريخية التي جمعت بين الإبداع وأهمية الموضوع، ليس آخرها مسلسل “عمر” الذي عُرض منذ قرابة العشر سنوات، وأخرجه الراحل المبدع حاتم علي، المخرج السوري الشهير.
أما اليوم، ومنذ أن أُعلن عن عرض مسلسل معاوية، سرعان ما استيقظ الوعي الطائفي الكامن في النفوس، شاجباً ومستنكراً الأمر، ومطلقاً أحكامه المسمومة قبل أن يحين أوان إطلاق الأحكام، فالمسلسل لم يُعرض بعد، ولم تفصح الشركة المنتجة عن مضمونه أو توجهه أو سياق الموضوع والمشكلات والحوادث والوقائع التي سوف يتناولها. ورغم ذلك، رأينا جميعاً كيف سارع السيد مقتدى الصدر، وهو أحد كبار زعماء الشيعة، إلى إصدار بيان مزدوج في اللغة والقيمة، حين ادعى سياسة الاعتدال والحضّ عليها، لينقضها في سياق متن بيانه، فيتعرض لصحابي له ما لجميع الصحابة من حق الاحترام والترضي عليه، واصفاً إياه بأنه “رأس الفتنة الطائفية”، ومتهماً إياه بتهم عظيمة لا يُتهم بها إلا كافر، “كشق صفّ الوحدة الإسلامية” و”قتل الصحابة” رضوان الله عليهم أجمعين.
ولأن الشركة المنتجة شركة سعودية مستقلة، لم يتردد الزعيم الشيعي في سحب الجزء على الكل، متقصداً الوقوع في مغالطة التعميم، ومضمراً توجيه اتهامه الباطل هذا للمملكة العربية السعودية كحكومة ودولة، خاتماً بيانه بأنه “ناصح” يريد أن “يسترعي انتباه” القائمين على الأمر، وحرصه على ألا يكونوا سبباً في “جرح مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها”.
يحاول الزعيم الشيعي أن يوهم الجمهور ويثير لديه الجدل حول ما إذا كانت السعودية قد وافقت الشركة على هذا الخطأ (هو خطأ بحسب زعمه طبعاً) أو لا، بل أكثر من ذلك فإنه يحاول الغمز من جانب أن النية المبيتة هي نية الدولة السعودية ذاتها. ولكن.. ولكي لا ننجرّ خلف ما يريد لنا أن ننجرّ خلفه، فإنه ينبغي توضيح أن فرضه الرئيس هو فرض باطل في جوهره، وقد بناه من يدّعي التصدي للطائفية على أساس طائفي بحت.
إذ لا خطأ أبداً في عرض مسلسل تاريخي يتناول معاوية وعصره والرجال الذين عاشوا في زمانه كما عاش هو في زمانهم. وإذا كان الزعيم الديني يدّعي جرح مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فلهؤلاء المسلمين، الذين يفوق تعدادهم 80% ممن يترضون على معاوية ولا يقبلون وصفه بسوء، زعماء دينيون كُثُر، وقادة وشيوخ يتحدثون باسم عامة المسلمين ويحرصون على عقيدتهم ومشاعرهم، وللمسلمين أيضاً هيئات ومؤسسات ودور إفتاء كثيرة، فلماذا لم نجد بين رجال الدين هؤلاء، ولا بين المؤسسات والهيئات هذه، من يقول قريباً مما قاله الزعيم الشيعي؟ أم لعله يفترض نفسه المدافع الوحيد والغيور الأخير على عقيدة المسلمين ومشاعرهم؟!
وللحقيقة فقد وجد بيان الزعيم الشيعي استنكاراً واضحاً على مواقع التواصل الاجتماعي التي نشره فيها، وكان لهذا الاستنكار جمهور عريض وجوانب عدة، فحتى بعض الشيعة من العراق وخارجه استنكروا مع من استنكر بيان الزعيم ولغته وأهدافه، وتوقيته أيضاً.
واعتبروا وهم محقون، أن مجرد خوضه في المسألة بهذه اللغة هو تحريض على الفتنة الطائفية من حيث يدّعي التصدي لها، ورأى بعضهم أن المسارعة في إطلاق حكمه قبل بدء عرض المسلسل والاطلاع على مضمونه هو تشدد في غير مكانه، وتعصب كان حرياً بالزعيم أن لا يُظهره، وأن رمي معاوية بالتهم الباطلة أمام غالبية المسلمين الذين يرونه صحابياً كغيره من الصحابة، له ما لهم وعليه ما عليهم، هو ما يمكن وصفه بأنه جرح لمشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ولأن الحق أحرى أن يُتبع عند من يحرصون على اتباعه، بخاصة إذا تبيّن لهم من نقد الآخرين أنهم غفلوا عنه أو حاولوا الاجتهاد فيه فلم يصيبوا، فقد اختار الزعيم أن لا يتتبع طريق الحق، وبدل أن يسكت بعد بيانه الأول على الأقل، أو يعلن التراجع عنه إذا كان يريد الإصلاح ما استطاع، استمر على موقفه ليعزز بيانه الأول ببيان ثان أطول وأكثر إمعاناً في إذكاء نار الفتنة والتحريض وإطلاق شرارهما. ومع أن المقام هنا لا يكفي لاستعراض كل ما تضمنه البيان الثاني من إجحاف وتعريض بصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام وبعقيدة السواد الأعظم من المسلمين، فسأكتفي بالوقوف عند بعض مضمون هذا البيان، وفي الإشارة إلى الجزء كفاية ليكون دلالة بيّنة إلى الكل.
ومع أن الزعيم يدّعي في بيانه الثاني أن ما يخرج عنه هو بدافعٍ من التزامه بمنهجه ومسيرته الواضحة ضد الطائفية، وأنه بذلك يسير على نهج آبائه وأجداده رغم ما يلقاه من سوء الظن حتى من بعض أتباع طريقته، لكنه يعود فيصف معاوية بأنه الثرى مقابل الثريا، والمنشق وقاتل الصحابة كما سبق في بيانه الأول، فيطعن في إيمانه وإيمان أهل بيته، بيت أبي سفيان أو البيت الأموي، ثم يعلنها صراحة أن مشكلته مع عرض المسلسل هو أنه لشخصية تنتمي لآل أبي سفيان وآل أمية، ولو أنه لغير آلهم لما تفوّه الزعيم ببنت شفة!
ولست براغب هنا أن أدخل من الباب ذاته الذي دخل منه الزعيم الشيعي لأرد عليه، أقصد استخدام العقيدة والإيمان كخلفية لاستعداء الأشخاص وذمهم والقدح فيهم.
ولكن يبدو أنه بعد انسحابه من الحياة السياسية كما أعلن، والذي جاء في الغالب نتيجة الهزائم السياسية التي مُني بها تياره، بات منشغلاً بهذه القضايا التاريخية التي لم تعد تسمن ولا تغنى من جوع، ولو كان مخلصاً بحق للتصدي للطائفية كما يحاول أن يؤكد، فالأحرى به أن لا يحوم حولها ويتعاطى أسبابها، وكأنه هو بالذات من أخبرنا عنه الشاعر بقوله:
لا تنهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلهُ عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ومع أنني شخصياً لا أعطي الاعتبار لهذا النوع من الخطاب، لكني أعرف أن أثره سيكون سيئاً بين فريقي المذهبين، سواء ممن كانوا من أبناء وطنه أم من عموم المسلمين، فأبو سفيان صحابي وولده مثله، اختص الأول بإشارة واضحة من الرسول الكريم يوم الفتح لما جعل الأمان في داره (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وكان معاوية ابنه متعلماً واسع المعرفة والحكمة، وأحد كتّاب الوحي الذين حظوا بالثقة لتدوين كلام الله سبحانه.
ومن البيت الأموي أيضاً خرج صحابة ذوو مكانة ورفعة وفضل، أحدهم عثمان الذي بذل ماله في سبيل قيام دولة الإسلام، وكان زوج ابنتي النبي كما كان علي زوج ابنته.
أمر آخر يسترعي الانتباه في البيان الثاني للزعيم، حين يطرح سؤاله الاستنكاري الذي لا يريد منه معرفة ما يجهل، بل يريد توجيه الاتهام لكل المسلمين الذين ليسوا من شيعته، نافياً عنهم الحياء من رسول الله وآله إذا لم يقفوا موقفه المتشدد هذا من معاوية ومسلسل معاوية، يقول وأقتبس: ((واليوم تنزلونه وتنزلونه وتنزلونه (يقصد علياً رضي الله عنه)، حتى قيل معاوية وعلي!!!!!! أما تستحون من سبطي رسول الله.. أما تستحون من فاطمة.. أما تستحون من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه الأخيار؟)). وفي الحقيقة لا أجد رداً على هذا الكلام إلا القول بأن المسلمين المؤمنين يستحون من كل من ذُكروا، بل ويستحون لدرجة أنهم لا يطرحون أسئلة كهذه الأسئلة في خضم نقاش مسألة كهذه المسألة!
ثم يدلي الزعيم بشهادته التي لم تُطلب منه في الأصل، فيقسم بالله أن معاوية لا يمثل السنّة! على رسلك يا زعيم، فالمسؤولية التي في عنقك تجاه أتباعك أكبر وأعظم من أن يخرج عنك هذا الخلط بين الحق والباطل، من أخبرك أن السنّة يمثلهم أحد حتى تقول كلاماً لا معنى له أصلاً، وتقسم عليه أيضاً؟ ما التمثيل في رأيك وعرفك حتى تقول إن لأهل السنّة والجماعة من يمثلهم؟ خلاصة القول فيهم أنهم مقتدون بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجتمعون في ظل هديها، يرفضون كل دعوة تدعو إلى شق وحدة المسلمين والخروج عليها، معاوية ليس ممثلاً للسنّة بل مؤمن بما جاء به النبي وما أنزل عليه من الوحي، مثله في ذلك مثل علي وغيره والمهتدين من المسلمين جميعاً منذ مطلع الإسلام وحتى يومنا هذا.
وفي ختام بيانه لا يتردد الزعيم في أن يرسم حدود الفرقة الناجية المؤمنة، والتي أدى الحوار فيها إلى تدمير الأمة وشرذمتها، فيجعل هذه الفرقة على تفصيل ما يؤمن به ويعتقده، ليُخرج منها كل من يخالفه الرأي والمعتقد.
يقول قوله هذا وهو ينذرنا بطول الوقوف- وأقتبس: ((عند قسيم النار والجنة وصاحب الصراط الذي بقي بابه مفتوحاً بأمر الرسول وأغلق جميع الأبواب)).
أستغفر الله إذاً وأبرأ إليه من هذا القول، وبخاصة أن صفات من قبيل: الباب وقسيم النار والجنة، هي بعضٌ مما يطلقه الشيعة على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. ليضيف إليهما الزعيم أن علياً أيضاً صاحب الصراط المستقيم، وهذا لقب نؤمن بظاهره لعلي وغيره من الصحابة وندعو أن نكون على استقامتهم، ونتبرأ من تأويله إذا أراد البعض تأويله في غير محله!
من جهة فكرية وأخرى سياسية، دعونا نقول إنه في خضم ما أثاره بيان الزعيم، وفي ظل تفاعل الناس والإدلاء بآرائهم وردودهم وحواراتهم، يتوضح لنا عمق المشكلة التي نود لو أنها كانت عابرة وابنة يومها.
ومع أنني أؤمن بأن التعصب قدر لا يلحق الطائفة الشيعية فحسب، بل كل طوائف الإسلام، إلا أننا نسعى دائماً لأن يكون الرأي العام بعيداً من لوثة هذا التعصب، وأن يكون خطاب القادة والزعماء المعترف بهم عند هذه الطوائف والمذاهب خطاباً نابذاً للتعصب بكل أشكاله، وداعياً إلى التسامح والحوار وتقبّل جميع المؤمنين مهما اختلفت مشاربهم المذهبية، وإني أعوّل دائماً على أن الوعي الشعبي العام، وهو الوعي الغالب، أقرب إلى التسامح منه إلى التعصب، وأن المتعصبين عادة لا يلقون، هم وقادتهم المنعزلون ضمن جماعاتهم، أي ترحاب شعبي، وبذلك يبقى خطر التعصب وأثره محدودين ويمكن تجاوزهما.
أما وأن يكون المتعصبون حاضرين وفاعلين ومؤثرين في الرأي الشعبي العام، فهذا مما ابتُليت به الأمة الإسلامية بلاءً شديداً، وبخاصة في العراق الذي شاع فيه العداء المذهبي، وعانى ويلات إرهابه وعنفه. وليس هذا الموقف من مسلسل معاوية، ومن شخص معاوية أولاً، إلا إمعاناً في إذكاء روح التعصب وجر فريق من المسلمين لاستعداء إخوانهم في الدين والدولة.
المشكلة الأخرى أن التعصب كان وما زال قرين الجهل، وما معاداة بعض الشيعة – أفراداً وأحزاباً وجماعات – لإخوتهم أهل السنّة، إلا نتيجة إعادة تكريس وتدوير هذا الجهل بالتاريخ وصيرورته زمن النبي الكريم وخلال مرحلة الخلافة الراشدية بعده. وللأسف فإن ما يختصر المشكلة كلها هو أن شيعة اليوم يعادون سنّة اليوم لأن فريقاً سبقهم بألف وأربعمئة عام عادى فريقاً آخر وقاتله وتحارب معه، بينما السنّة لا يُعادون أحد الفريقين ولا كليهما، لا يشتمون أحداً ولا يطالبون بالثأر لمظلمة انقضت منذ قرون. بل يقبلونهما دون الخوض في نزاعهما التاريخي مع التأكيد على فصله فصلاً تاماً عن الإيمان والعقيدة، بقول آخر هو نزاع سياسي بحت، وصراع بين قوى اجتماعية وتاريخية، وليس صراعاً بين حق وباطل أو بين إيمان وكفر.
ومعاوية فضلاً عن غيره من الصحابة، هو شخص طبيعي قادته ظروف سياسية وسمات شخصية لأن يكون مؤثراً في تاريخ الإسلام، وصاحب أول دولة مسلمة كان لها نهجها السياسي الذي يختلف عن النهج الذي سبقه منذ أن كان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام صاحب الأمر، ثم خلفه أمراء المؤمنين في الخلافة الراشدة التي سمّاها هو نفسه عليه الصلاة والسلام راشدة، وقد أخبرنا أنها لن تبقى كذلك، ولكن الإسلام باق في ظل الدول الإسلامية التي تلتها إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة. وأنه لمثار فخر أن نقول إن أوروبا عرفت الإسلام في الأندلس من فرع هذه الدولة التي أقامها عربي مسلم قرشي أموي اسمه معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وأن دمشق التي كانت حاضرة للإسلام والعروبة وما زالت، هي العاصمة التي وطّن فيها هذا القائد أسس دولته، وفيها اليوم نصب تذكاري يعرفه السوريون باسم السيف الدمشقي أو “سيف معاوية”، شامخاً على طرف ساحة عريقة اسمها ساحة الأمويين. وبحسب ما سمعت ذات مرة أن بعض المتعصبين هددوا بأن إرهابهم سيتطاول ليدمر هذا السيف نكاية بتاريخ هذه المدينة وصلتها العريقة بمعاوية.
ثمة موضوع آخر يحاول البعض إقحامه في هذه المسألة، مفاده أن الاستعداء ضد أي عمل تلفزيوني درامي يرتبط بالصحابة هو أمر شرعي يتعلق بمشكلة تجسيد شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم، وهذه مسألة فقهية شرعية بحتة لا علاقة لها بالفروق المذهبية، ولا ينبغي بأي حال زجها في الخلاف العقائدي بين الطوائف، ورغم أن الموقف في هذه المسألة كان متشدداً خلال العقود السابقة، وبخاصة من جهة تجسيد أدوار كبار الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أن الأمر أصبح أكثر مرونة من قبل، ولكنه يبقى موضع خلاف بين علماء الدين، ولو أن ثمة إجماعاً فقهياً على منعه لما رأيناه في أعمال سابقة.
ما أود قوله هو أن آفة الحاضر هي الوقوف مع الماضي ضده، وآفة المستقبل هي إعادة إحياء الماضي فيه. وما يؤخذ على بعض الزعماء المؤثرين في مجتمعاتنا العربية وطوائفها بالمجمل، سواء من قادة الرأي أم العقيدة أم السياسة، أنهم لا يراعون مسؤولية تأثيرهم في أتباعهم كما ينبغي أن تُراعى وكما تستحق، فينشغلون باصطناع مواقف طارئة ويعمدون إلى استدامتها وتعظيمها من حيث لا يجدون ما هو أولى للقيام به.
وبدل أن يكونوا قادة يقودون أتباعهم باتجاه ما هو أفضل مما هم عليه الآن (وهذا أفضل تعريفات القيادة)، نراهم يتمسكون بالسير خلفاً، ليبيعوا حاضر أوطانهم وشعوبهم بثمن بخس! وللأسف ما زال تأثيرهم حاضراً في منطقتنا التي ما زالت أسيرة التعصب الأعمى لتاريخها، ومصداق ذلك على الأقل أن قناة (MBC) العراق قد قررت منع عرض المسلسل بسبب ما أثير حوله من لغط طائفي مصطنع، وأتمنى عودتها عن هذا القرار لتشارك في صناعة إعلام يقبل التعددية ويتجنب الانحياز أو الرضوخ للدعوات الطائفية، ولتسهم بدورها في تعدد مصادر المعرفة التي يرغب الشباب الشيعة العراقيون في الاطلاع عليها حول هذا الصحابي الجليل، كون المسلسل يعكس وجهة نظر أخرى غير وجهة النظر السائدة لديهم. إضافة إلى أن هذا القرار لا يؤثر في شيء على المستوى الواقعي، إذ ستعرضه القنوات الأخرى وسيصل إلى كل بيت، وسيشاهده بسبب الضجة التي أُثيرت حوله من لم يكن يفكر في مشاهدته، لكن الأثر المعنوي سيبقى متحققاً في شكلية قرار المنع بحد ذاته.
وإذا كنا نؤكد دائماً أهمية أن نفصل بين الدين والسياسة، وأن نصون قداسته وقيمه عن أن تكون أدوات ووسائل لتجاذبات السياسيين ومصالحهم وصراعاتهم، فالأهمية تنسحب أيضاً على ضرورة فصل الدين عن الفن من جهة ما يتعلق بتصوير وعرض مسلسل كمسلسل معاوية، وعن التاريخ أيضاً من جهة الاقتناع بأن كل صراع سياسي أو فكري بعد انتهاء نزول الوحي واكتمال الدين هو صراع إنساني بين أفراد طبيعيين فرضه ظرفهم التاريخي واختلاف آرائهم وتباين رؤيتهم للحق، وهذه سنة الله في خلقه وهو القائل: (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) هود – 118.
أخيراً.. أتيح لي بعض الوقت خلال اليومين الماضيين لأتحدث مع صديق عراقي عزيز، وهو من مثقفي الشيعة وناشط في السياسة العراقية، سألته معاتباً: أما حان الوقت ليتجاوز العراقيون هذا النفس الطائفي ويركزوا على بناء وطنهم وانتشاله من أزماته ومشكلاته؟ أما حان الوقت لترك الماضي والالتفات للمستقبل وتوجيه شبابكم نحو العلم والتكنولوجيا ليعملوا على نهضة وطنهم بدل أن يبقوا مشغولين بنبش قبور التاريخ وقضاياه التي عفّى عليها الزمان؟ فأجابني أن كثيرين ما زالوا يستمدون بقاء سلطتهم واتساع صلاحياتهم بالاعتماد على إحياء هذا الماضي والتباكي عليه، فيصرفون بذلك شباب العراق عن اكتشاف الحقيقة. فيا عجبي من قادة هذا جل همّهم!
نقلاً عن “النهار” العربي