كريتر نت – متابعات
يبقى مستقبل ليبيا قاتما ما لم تُتخذ مبادرات جريئة في مواجهة نجاح النخب السياسية والميليشيات المسلحة في ترسيخ نفسها في جهاز الدولة وفي محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، إذ تهمّش النخب الشعبَ وتسيطر على البلاد من خلال نموذج المافيات.
وتواصل النخب السياسية قيادة ليبيا المنقسمة بعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب الأهلية العنيفة الأخيرة مما يمدّد عدم الاستقرار والعنف. وشهد الصيف الماضي احتجاج الشباب الليبيين في شوارع البلاد للتعبير عن إحباطهم في بلد تقوده حكومتان ولا يحكمه أحد.
وتدخل ليبيا عاما آخر دون احتمالات إجراء انتخابات، ويجب أن تكون الحاجة إلى حلول تركز على معاناة السكان في مقدمة اهتمامات الجميع. لكن النخب السياسية والأمنية (ومن ورائها داعميها الأجانب) تواصل الاستفادة من الانقسامات العميقة المستمرة لترسيخ نفسها وأموالها وتطلعاتها السياسية في جميع العمليات الداخلية والخارجية التي تهدف إلى إنهاء الوضع الراهن وإعادة البلاد إلى مسار الانتقال السليم.
ويذكّر هذا بقضايا المافيا العالمية وحكم المجتمعات، ويعزز الشعور السائد بأن أولئك الذين لن نذكر أسماءهم وطرقهم الإجرامية أصبحوا الآن حقيقة سياسية يجب التعامل معها لضمان مستقبل ليبيا.
تمكّنت الجماعات المسلحة منذ الثورة من الاستيلاء على ما تبقى من الدولة الليبية. وتولى معظم قادة الجماعات المسلحة الرئيسية منذ ذلك الحين مناصب داخل جهاز الدولة، وتستمد شرعيتها السياسية من انتماءاتها المؤسسية. وعززت نفوذها مما صعّب على هياكل الدولة الضعيفة الإشراف عليها ومحاسبتها.
وتشير التقديرات الآن إلى أن ما يقرب من واحد من كل خمسة ليبيين يتقاضون راتبا من الدولة، بما في ذلك أعضاء الجماعات المسلحة. لكن الدولة غالبا ما كانت غير قادرة على دفع رواتب لعدة أشهر في كل مرة، مما أدى إلى ابتعاد الناس عن التوظيف الحكومي والاتجاه نحو حياة الميليشيات.
وتبقى هذه الحلقة المفرغة من الاندفاع نحو المسالمة لقادة النخب في الجماعات المسلحة الذين يركزون على التعبئة المالية والسياسية أكثر من القتال لضمان استمرار أهميتهم للسلطة. لكن شرعية الجماعات المسلحة السياسية قد تكون سبب سقوطها وتحولها إلى شبكات جريمة منظمة.
تغلغل الميليشيات
ومن المرجح أن يؤدي اعتمادها المتزايد على الدولة العميقة لتحقيق تطلعاتها السياسية إلى تدهور تدريجي في شرعيتها الاجتماعية، حيث يشعر الشعب الليبي بإحباط كبير من الطبقة السياسية بأكملها.
ومع دمج ممثلي الجماعات المسلحة المتزايد في المسارين السياسي والعسكري لعملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، يبدو مستقبل البلاد دولة تديرها المافيا وملاذا تزدهر فيه المصالح الإجرامية دون رادع.
ويتطلب الأمر تدخل المجتمع الدولي لمنع هذا السيناريو وتحقيق التطلعات الديمقراطية الحقيقية للشعب الليبي. وقد يفرض هذا تغييرا في نموذج العمل بدلا من القبول الحالي بإدراج الجماعات المسلحة في المفاوضات السياسية الدولية.
وتشهد ليبيا اليوم عسكرة العديد من هؤلاء الفاعلين الذين يتوقون إلى الشرعية السياسية والاجتماعية، وانتشار سلطة الجماعات والهياكل الاجتماعية كأشكال رقابة غير رسمية وإنفاذ القانون بحكم الأمر الواقع. لكن هذا التحول في النموذج ليس متوقعا على المدى القصير.
وفي حين جاء تعيين مبعوث الأمم المتحدة عبدالله باتيلي في لحظة مناسبة لليبيا، تفشل خارطة الطريق المقدمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فبراير 2023 في تجسيد اليد الأقوى.
ومن المرجح أن تظل ولاية باتيلي مثقلة بإرث النزاعات التي لم يتسنّ التوصل إلى حلها، مع إيلاء القليل من الاهتمام للعدالة والتعويض والجمهور الليبي الأوسع الذي يزداد فقرا وإرهاقا وأصبح لا يثق في مهمة الأمم المتحدة.
ويبدو أن اعتبار جميع الجهات الفاعلة على أنها من المفسدين المحتملين وعزلها عن تصميم أي عملية تقودها الأمم المتحدة السبيل الوحيد للخروج من الفراغ الحالي الذي طال أمده. ولكن هذا غير مرجح بموجب خارطة الطريق الجديدة، مما يزيد من أهمية تركيز جهود تحديد الأجزاء التي يجب تحصينها من المفسدين قدر الإمكان.
وستتوفر شبكة الأمن المالي للمجموعات الإجرامية إذا فشلت الشرعية السياسية في حماية سلطتها وأراضيها، مما جعلها تحرص على الاستفادة من اقتصاد الظل لصالحها.
ويعاني البلد الذي لا يزال العقد الاجتماعي فيه يتعلق أساسا بالمصالح الاقتصادية، من حكومة معرضة للفساد وقادرة على إنفاق مليارات من الدنانير الليبية دون أي ضوابط واضحة يتم بموجبها صرف الأموال. ولم تتأثر خطط إنفاق أموال الدولة مع تحرّك أكثر من أربعين مليار دينار ليبي بحرّية في جميع أنحاء البلاد دون رادع.
الأسلوب المصري
يخلق الأسلوب المصري للمشاركة العسكرية في الاقتصاد سوابق خطيرة لتفاقم نظام الحوكمة الاقتصادية الهش بالفعل. وأصبحت أي آفاق لاستثمارات مؤسسة النفط الوطنية في البنية التحتية على المدى المتوسط إلى الطويل موضع اهتمام الشبكات الإجرامية التي تسعى للوصول إلى هذه الأموال مع نصيبها السخي من الثروة النفطية للبلاد لتوليد إيراداتها الخاصة.
ولا يبرز احتمال يبشّر بنجاح نموذج للأمم المتحدة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج ضد هيكل الميليشيات الإداري الذي ينتج مثل هذه الثروة والقوة بما يجعل المناصب الرئيسية في القطاع الخاص غير جذابة بما يكفي لإحداث تغيير طوعي.
وليست هذه الصورة القاتمة سوى الظاهر من الطرق التي تؤثر بها الجريمة المنظمة بهذا الحجم على آفاق التنمية في ليبيا. ولم يعد بإمكان المجتمع الدولي أن يتردد في تجاهل حقيقة أسلوب عمل المجرمين.
ولا تلوح نهاية سعيدة في الأفق. ولا تزال المصلحة الذاتية هي القوة الدافعة للحفاظ على الوضع الراهن، حيث يعرقل المفسدون الرئيسيون أي حل سياسي من شأنه أن يفقدهم السلطة والنفوذ والثروة والامتيازات.
لكن بعض بوادر الأمل تبرز للقليلين. ففي حين سيصعب تفكيك هيكل إدارة الميليشيات بالجزر (على عكس العصي)، سيمكن إقناع العديد من المجندين بتحويل مسارهم إذا توفرت السبل المناسبة للتطوير المهني.
وقد تكون الاستثمارات لتطوير التعليم العالي والقطاع الخاص في ليبيا منطلقا جيدا يدعم إمكانات ليبيا كمركز للابتكار خاصة في قطاع الطاقة حيث يمكن أن تكون البلاد مركزا اقتصاديا لشمال أفريقيا وجسرا إلى أوروبا خلال أزمة الطاقة العالمية.
كما يجب أن يكون التركيز الحقيقي بقيادة الأمم المتحدة على العدالة والمصالحة والمساءلة في المقدمة وفي المركز. ويمكن تحقيق الكثير عن طريق الرقابة والضوابط والتوازنات (بما يشمل متابعة الأموال، وتتبع الإنفاق الحكومي، ومنع الفساد وسوء الإدارة المالية).
وأخيرا، سيكون تعزيز قطاع العدالة في البلاد عنصرا ضروريا للملاحقة القضائية لانتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزات استخدام القوة التي ارتكبتها الجماعات المسلحة الليبية لصالح قواها الخاصة أو الخارجية.
ويجب أن تركز أوروبا على مسألة المهاجرين الليبيين المحتجزين والمعذبين في ظروف غير إنسانية. وفي حين تبقى الأحداث الأخيرة مثل زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني مرحبا بها لتجديد الاهتمام والاستثمارات، يجب ألا تكون على حساب الحاجة إلى تجنب تعكير وضع المهاجرين ومحاكمة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
ويمكن أن تكون خيبة أمل الجمهور الليبي من عملية الأمم المتحدة والنخب السياسية وقادة الميليشيات التي همّشتهم الدافع الذي تحتاجه البلاد لصياغة عقد اجتماعي جديد يعكس قيم الجمهور وسعيه لتحقيق العدالة والمساءلة.