آسيا هشام
بينما تراقب أجهزة الرصد صفائح الأرض خشية تموضع تكتوني جديد، فوجئ العالم بخبر توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، زلزال جيوسياسي يصعب تقدير شدته، كما أن معرفة آثاره تحتاج وقتا بحكم أنّ هزاته تمتد على طول طريق الحرير، انطلاقا من طموح بكين وخفايا سيبيريا، مرورا بآبار وألغام وتطلعات الشرق الأوسط وشرق أوروبا، وصولا إلى البيت الأبيض وحديقته الخلفية في أميركا اللاتينية.
إلى الشرق الأوسط ينتمي قطبا الاتفاق، ولا داعي إلى التذكير بأن ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، بشّر بأن في هذا الشرق أوروبا قادمة، والمتابع لنشاط الإدارة السعودية خلال السنوات الثلاث الماضية، يقر بتغييرات جوهرية في أدائها على المستويين الداخلي والخارجي، بداية من الفصل في ملفات كالعراق واليمن ومصر ولبنان، مرورا بالتحركات التي بدأت أو على وشك البدء في تركيا وسوريا، وأخيرا الاتفاق الأخير مع إيران، الخصم الذي لا بد من التعامل معه، كون البديل الآن ليس إلا استمرارا لنزيف الاقتصاد والبشر.
ليس مبالغا فيه القول إن المخاوف الإيرانية أقل من نظيرتها العربية، فالعرب ليسوا كجارتهم التي ترغب في تصدير ثورتها تحت حماية الحرس الراديكاليّ الذي تمتد أذرعه ليس فقط خارج المؤسسة العسكرية وإنما وراء الحدود.
يقول وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في تسجيل صوتي مسرب “أحببت أن يتم التنسيق مع قاسم سليماني في ما يتعلق باتخاذ المواقف الخاصة بقضايا المنطقة، خصوصا في تلك الملفات المناطة بقائد فيلق القدس”. إذا تناط ملفات المنطقة بفيالق الحرس الثوري، وهذا ما يستدعي من المراقبين الحذر والتأهب الدائمين.
رددنا طويلا مقولات من قبيل أن النفط لعنة لم تجلب من العمران بقدر ما استقطبت من الأطماع والأعداء والمؤامرات، لكن الإدارة السعودية الحالية فككت هذه العقدة، جاعلة من النفط رقما صعبا ضمن كل المعادلات والملفات السياسية دوليا وإقليميا، وقد بدأ هذا النهج في نوفمبر 2021 حين اتفق أعضاء تحالف أوبك+ على خفض الإنتاج الجماعي لدول التحالف بمقدار مليوني برميل يوميا، البيت الأبيض في حينها استبق القرار بوثيقة أعربت فيها واشنطن عن قلقها من أن أي خفض في الإنتاج يمكن اعتباره عملا عدائيا من قبل المملكة، لترد الأخيرة على تلك التصريحات بأخرى تفندها، ولكن الأهم في القصة هو ما ظهر يومها وللمرة الأولى من أن القطب الأوحد فقد شيئا من سلطته الوصائية على العالم ومنطقتنا.
بعد ثلاثة أشهر فقط كنا على موعد مع حدث أعمق دلالة، فقد عبرت القوات الروسية الحدود، متوغلة في الأراضي الأوكرانية، غير آبهة بتحذيرات أميركا وحلفائها في الناتو ليفتح المجال لسيل من الأحداث الدولية المفصلية ومنها البدء بمناوشات تايوان، واللافت في هذه الأخيرة أنه حين اقتربت طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي هابطة في تايبيه تساءل كثر عن احتمال إقدام الصين على إسقاط طائرة ثاني أكبر مسؤول في هرم السلطة الأميركية، ويكفي مجرد ورود التساؤل هنا لنستشعر التغيير، خصوصا أن الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشونيينغ حذرت يومها الولايات المتحدة من مغبة مثل هذا الاستفزاز، خاتمة تصريحها بعبارة “الصين اليوم ليست كما كانت في السابق، يجب ألا تتجاوزوا الخط الأحمر”.
اليوم مع إتمام هذا الاتفاق الثلاثي نرى أن نشاط الدبلوماسية الصينية في أركان العالم الأربعة ماض، تمهد له صناعة تريد الصين أن يحتاجها الكوكب برمته، على الرغم من السؤال الذي يبقى حاضرا حيال نضج الصين بما يؤهلها لزعامة دولية شريكة أو بديلة، خصوصا عندما تتساءل منظمات حقوق الإنسان مثلا عن الشمولية الصينية ونموذج الحكومة في إدارة الجموع.
من المبكر جدا الحديث عن انحسار للنفوذ الأميركي، فالبوارج العسكرية وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية الأميركية لم تخل بعد موقعا واحدا من مواقعها المنتشرة في محيطات العالم الخمسة وقاراته الست، مضائق العالم لا تزال في قبضة الولايات المتحدة كما أن صورة جورج واشنطن على الدولار الأميركي ما زالت الأكثر جمالا حتى لدى أعتى المبشرين بسقوط تمثال الحرية.
نقلاً عن العرب اللندنية