كريتر نت – متابعات
تتجه السعودية للتحرر من قيود وضغوط القوى الدولية الكبرى عن طريق بناء سياسة متوازنة تراعي مصالح المملكة أولا، وتستند في ذلك على بناء اقتصاد قوي يؤهلها لأن تصبح فاعلا رئيسيا يحسب له ألف حساب.
وكشفت صفقة طائرات بوينغ عن طموح لا محدود للسعودية، وامتلاكها السعة التي تكفل لها بناء مستقبل يعد بالقدرة على احتلال مكانة دولية مستقلة. ويرى متابعون أن الصفقة التي تبلغ قيمتها 37 مليار دولار، زهيدة بمقاييس العائد منها، إذ تضيف عشرين مليار دولار للناتج الإجمالي المحلي وتساهم بإضافة 200 ألف وظيفة جديدة، وعائداتها سوف تسدد تكاليفها في أقل من ثلاثة أعوام.
هي ليست صفقة أسلحة، وحتى وإن كانت النظرة في السعودية لصفقات التسلح تنطوي على تحديثات، حيث إنها تتطلب أن يجري تصنيع أجزاء منها داخل المملكة، فإن صفقة طائرات بوينغ اقتصادية خالصة، أي إن عائداتها تصب في اقتصاد البلاد مباشرة.
وتقول التقديرات إن الخطوط الجوية السعودية سوف تكون قادرة، من خلال الناقل الرسمي “السعودية” و”طيران الرياض”، على نقل 330 مليون مسافر سنويا، ما يؤهل البلد لأن يكون مركزا لوجستيا الأضخم في المنطقة.
ويتوافق هذا الناقل الجديد مع استعدادات المملكة لبناء أكبر مركز إقليمي للشحن والتجارة، يضمن استقرار السيولة في سلاسل الإمداد بين مراكز الاستيراد والتوريد والتوزيع.
ويجعل الموقع الجغرافي للسعودية على البحر الأحمر، وفي الوسط بين مختلف قارات العالم، من الجهات الأربع، هذا المركز قادرا على توظيف كل الوسائل، البحرية والجوية منها خاصة، لتغذية التبادلات التجارية العالمية.
وتجسد هذا الطموح باتفاق الشراكة الإستراتيجية بين السعودية والصين والذي تضمن عقودا تزيد في قيمتها عن 29 مليار دولار، فضلا عن العشرات من الاتفاقيات الاستثمارية في قطاعات الهيدروجين الأخضر، وتكنولوجيا المعلومات، والنقل والبناء. كما شمل مشاريع مستقبلية مشتركة في مدينة “نيوم” السعودية التي تبلغ قيمة الاستثمارات فيها خمسمئة مليار دولار.
ودفعت صفقة بوينغ الولايات المتحدة أيضا إلى مراجعة حساباتها. فكانت بهذا المعنى صفقة سياسية، قوبلت بالترحاب، وأكدت متانة العلاقة التجارية بين واشنطن والرياض، ولكنها قالت إن السعودية لا تتعامل مع حلفائها بردود فعل، وإنما تنظر إلى مصالحها أولا.
وقدمت التعليقات التي أدلى بها المسؤولون الأميركيون عقب الإعلان عن الصفقة، ما يكفي من الإيحاءات بأن فكرة “إعادة النظر” في العلاقات الثنائية قد قُبرت. من ناحية لأن السعودية شريك اقتصادي لا غنى عنه، ومن ناحية أخرى، لأن خياراتها السياسية ثبت أنها ليست بالضرورة ضارة بالولايات المتحدة.
وكان قرار خفض معدلات إنتاج النفط في “أوبك+” في أكتوبر الماضي، دفع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى طرح فكرة مراجعة العلاقات، لكن هذا القرار لم يؤد إلى رفع أسعار النفط. ولم تمض أسابيع حتى بدأت الأسعار بالانخفاض بالفعل، ما يؤكد أن قراءة السعودية لتوازنات السوق كانت قراءة اقتصادية صحيحة. والأهم من ذلك، إنها كانت قراءة غير سياسية.
وأثبت استقبال الرئيس الصيني شي جين بينغ في الرياض، في ديسمبر الماضي، وتوقيع اتفاقيات، أنها لا تأخذ من مصالح الولايات المتحدة شيئا، ولكنها تبني علاقات تجارية تخدم التطلعات السعودية نفسها. كما هو الحال بالنسبة إلى الاتفاق على استئناف العلاقات بين الرياض وطهران، فقد أكد التوجه نفسه، وهو أن السعودية تريد أن تعيد ترتيب أوضاع المنطقة بما يتلاءم مع خططها التنموية.
ويشكل وقف النزاع بين القوتين الإقليميتين فرصا لتسوية أزمات أخرى، والنتيجة الرئيسية هي أن يعاد فتح الطرق أمام مشاريع البناء والتحديث، وهو ما يخدم أيضا الشركاء التجاريين الرئيسيين للسعودية الذين سيمنحهم ذلك فرصا للاستثمارات، ما كان بوسع بيئة الأزمات الإقليمية أن تتيح السبل إليها.
وقد تبدو إسرائيل المتضرر الوحيد، حيث إنها طرف اختار بضاعة لا تتوافق مع المجرى العام الذي تسلكه السعودية منذ انطلاق رؤية 2030، قبل نحو عقد من الزمن. هذه الرؤية التي لم تكن تراهن على تصعيد النزاعات الإقليمية. كما لم تراهن على تحالفات لتغذية هذه النزاعات.
وجعلت أخطاء القراءة الإسرائيلية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يبيع ما لا يمكن شراؤه، على سبيل محاولة الهرب من الاستحقاق الذي كان يتعين أن يأخذ به منذ حكوماته السابقة، وهو تحقيق التسوية مع الفلسطينيين، والأخذ بالمبادرة العربية التي طرحتها السعودية في العام 2002 في مؤتمر قمة بيروت.
ويرى مراقبون أن التوجهات التنموية السعودية التي بقيت تراوح مكانها منذ ذلك الوقت، أطلقت العنان لنفسها الآن. وبات من الواقعي أن ترى إسرائيل أنها هي الخاسر الأكبر كلما تأخرت في إنجاز استحقاقات السلام.
◙ السعودية قوة اقتصادية طموحة، وهو وضع من شأنه أن يعزز نفوذها في المنطقة، ويحررها من ضغوط القوى الأخرى
عائدات أرامكو التي زادت عن 160 مليار دولار في العام الماضي، يمكن أن تتكرر على امتداد عدة سنوات مقبلة. فأسعار النفط ليس من المنتظر لها أن تتراجع. وهو ما يتيح الفرصة للمملكة أن تعقد المزيد من الصفقات التي تخدم تلك التوجهات.
ويقول المراقبون إن الخيط الرابط في كل هذه التوجهات، هو أنها تقوم على موقف سياسي صلب، يقيم جسورا متوازية، ومتساوية، بين كل القوى الدولية. يسعى إلى الاستفادة من قدراتها، ويخدم مصالحها من دون انحيازات تؤدي إلى تغذية الانقسامات أو التناحرات أو حتى المنافسة الحادة بين تلك القوى.
باتت روسيا تسلم الآن بحقيقة أن السعودية ليست منافسا يقصد إلحاق الضرر بمصالحها. ما يحصل هو العكس. ومشاريع التكرير والبتروكيمياويات التي تنفذها السعودية في الصين وعدد من دول جنوب آسيا، لا تشكل تهديدا لفرص منافسين نفطيين آخرين، سوى أنها فرص تحتاجها الأسواق هناك، كما تتوفر لدى السعودية السعة لتنفيذها. وهو ما يشكل نوعا من ملء فراغ تجاري يخدم الاستقرار ويتلاءم مع احتياجات المستفيدين، بمقدار ما يخدم طرف الاستثمار.
تظهر السعودية الآن كقوة اقتصادية طموحة. وهو وضع من شأنه أن يعزز نفوذها السياسي في المنطقة، ويحررها في الوقت نفسه من ضغوط القوى العظمى الأخرى، التي سوف تجد نفسها مجبرة على أن تعيد النظر بمكانة السعودية، مثلما تعيد الإدارة الأميركية الآن النظر بـ”إعادة النظر” التي هدد بها الرئيس جو بايدن في أكتوبر الماضي. ويقول المراقبون إن السعودية الطموحة يمكن أن تكون حليفا جديرا بالثقة، يحترم وشائجه مع الجميع، إلا أنها لم تعد تابعا لأي أحد.