ترجمة: مدني قصري
تناول الجزءان الأول والثاني من هذا المقال، أوضاع معتقَلين داعشيين بين أيدي القوات الكردية في سوريا. فإلى جانب وصف أوضاع المعسكرات والسجون المختلفة واهتمامه بداعش الذي جعل من إطلاق سراح أتباعه أولوّية عَمَلِيّاتية فإنّ هناك اهتماماً خاصاً سيتم إيلاؤه للتهديد الأمني المتزايد الذي تجسده أماكن الاحتجاز هذه، واستجابة المجتمع الدولي، لا سيما فيما يتعلق بإعادة المقاتلين غير العراقيين وغير السوريين إلى بلدهم الأصلي، كما يوضح الجزء الثاني من المقال.
ولا يكتفي الأسرى الجهاديون، كما أظهر الجزء الثاني من المقال، بإبقاء أيديولوجية أبو بكر البغدادي حية، بل إنهم ينظمون ما بعد ذلك، أي إطلاق سراحهم وعودة الدولة الإسلامية إلى العراق وسوريا. هنا جزء ثالث وأخير من هذا المقال. (المحرر)
“هذا المكان أرض خصبة للجيل القادم من داعش” هكذا ردّد الجنرال الأمريكي مايكل كوريلا قائد القيادة المركزية الأمريكية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بشأن مخيم الهول. لقد قررت الإدارة الأمريكية بالفعل خلال عام 2022 معالجة موضوع ترحيل الجهاديين الأجانب إلى بلادهم الأصلية، وهو موقف كان قد تم التأكيد عليه في نهاية شباط (فبراير) 2021.
الموضوع حساس للغاية: في شباط (فبراير) 2019 في فجر الهزيمة الإقليمية لداعش في سوريا أشار استطلاع للرأي على سبيل المثال إلى أنّ 82٪ من الفرنسيين الذين تم استجوابهم كانوا يؤيدون محاكمة الجهاديين الفرنسيين في سوريا وليس في فرنسا. وحتى صيف عام 2022 اختارت السلطات الفرنسية الترحيل إلى الوطن على أساس كل حالة على حدة، حيث رحّلت 35 طفلاً إلى فرنسا خلال ثلاث سنوات ونصف السنة.
تحت زخم الهيئات الدولية المختلفة، وفي مقدمتها لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل قررت فرنسا أخيراً، في5 تموز (يوليو) 2022 ترحيل 35 طفلاً في وقت واحد، وللمرّة الأولى 16 زوجة لمقاتلي داعش، بما في ذلك إيميلي كونيغ، وهي مُجنِّدة داعش والداعية المستهدفة بموجب مذكرة توقيف بتهمة “جمعية إرهابية إجرامية”. وأعقبت هذه العملية عمليتان أخريان واسعتان للترحيل إلى الوطن في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 مع ترحيل 15 امرأة و40 طفلاً، ثم في 24 كانون الثاني (يناير) 2023 حيث تم ترحيل 15 امرأة و32 طفلاً إلى الوطن. ومع ذلك فإنّ فرنسا بعيدة كل البعد عن كونها الدولة الوحيدة التي اتبعت هذا الاتجاه: في البداية كانت مترددة للغاية في ترحيل مواطنيها الذين حاربوا في صفوف داعش، أما دول أوروبا وأمريكا الشمالية فقد بدأت في ترتيب حركة ترحيل بطيئة ولكنها مؤكدة.
في الواقع، على غرار فرنسا ثبت حتى الآن أنّ هذه الدول كانت دقيقة للغاية، على الأقل فيما يتعلق بدول أوروبا وأمريكا الشمالية. أما دول آسيا الوسطى، المورّدة لمقاتلين أجانب لصالح داعش، على سبيل المثال، فقد أطلقت في وقت مبكر جداً (قبل النهاية الإقليمية للخلافة) عمليات واسعة النطاق واستعادة 714 كازاخستانياً و339 أوزبكياً و230 طاجيكاً. علاوة على ذلك، ففي الفترة من 2019 إلى كانون الأول (ديسمبر) 2022 تم ترحيل أكثر من 6000 مقاتل وعائلاتهم من أماكن الاحتجاز الكردية السورية تابعين لـ 34 دولة، من بينهم 4000 فقط تم ترحيلهم من العراق.
مع تخلفها عن الركب حتى الآن حققت دول أوروبا وأمريكا الشمالية ديناميكية جديدة مع إرادة الولايات المتحدة في هذا المجال خلال عام 2022 وتعبيراً عن رغبتها في “إظهار المثال” أكدت وزارة الخارجية الأمريكية في تموز (يوليو) 2022 ترحيل جميع مواطنيها البالغ عددهم 39 المحتجزين في السجون والمعسكرات الكردية السورية. وهكذا شهد عام 2022 تسارعاً في عمليات الترحيل إلى الوطن، حيث تم إجلاء 3100 شخص من المعسكرات أو السجون خلال العام الماضي.
وهكذا، منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2022 استمرت ثماني دول على الأقل في عمليات الترحيل إلى الوطن، حيث بلغ عدد المرحلين 659 للعراق، و17 لأستراليا، و23 لكندا، و12 لألمانيا، و40 لهولندا، و38 لروسيا و15 لإسبانيا. أثبتت دول أخرى أنها أقل ميلاً لإجلاء مواطنيها، حتى تقلل من عدد مواطنيها الذين سيتم ترحيلهم إلى أوطانهم، ومنها المملكة المتحدة – التي أجلت 11 شخصاً في الوقت الحالي – على سبيل المثال جرّدت 19 شخصاً على الأقل من جنسيتهم واستثمرت أكثر من 20 مليون دولار في توسيع أحد السجون في الحسكة من أجل تشجيع بقاء سجناء داعش في سوريا بين أيدي القوات الكردية.
وعلاوة على التحريض الأمريكي على إعادة هؤلاء الجهاديين، تتعرض بعض الدول لضغوط داخلية. وهكذا أمرت محكمة فيدرالية الحكومة الكندية في 13 كانون الثاني (يناير) )2023، على سبيل المثال، بإجلاء رعاياها من السجون السورية. وتمكنت أوتاوا حتى الآن من الامتناع عن إعادة مواطنيها الأربعين الموجودين في شمال شرق سوريا، بحجة أنّ كندا ليس لديها التزام دبلوماسي في هذا الصدد. لكنّ قرار المحكمة هذا دفع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أخيراً للإعلان عن ترحيل 23 امرأة وطفلاً محتجزين في سوريا في كانون الثاني (يناير). وفي حالات أخرى فإنّ وفاة مواطنين في المعسكرات والسجون الكردية ستدفع منظمات المجتمع المدني للضغط على حكوماتها لإعادة مواطنيها الذين ما زالوا رهن الاحتجاز، ومن الحالات على سبيل المثال، هناك المعسكر الذي توفي فيه مراهق أسترالي في 18 تموز ( يوليو) 2022 في سجن الصناعة. وإن لم تتضح بعدُ ملابسات وفاته فقد أخبرت عائلته أنه كان يعاني من مرض السل وأنه أصيب في رأسه وذراعه أثناء محاولة الفرار التي نظمها تنظيم داعش في كانون الثاني (ينلير) الماضي. وهذا ما دفع السلطات الأسترالية إلى الشروع في ترحيل مواطنيها والإعلان، في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 عن وصول 4 نساء و13 طفلاً محتجزين في سوريا إلى الأراضي الأسترالية.
قبل ذلك ببضعة أشهر توفيت امرأة فرنسية تبلغ من العمر 28 عاماً مصابة بداء السكري وتعتمد على الأنسولين في 14 كانون الأول ( ديسمبر) 2021 في الهول، تاركة طفلة تبلغ من العمر ست سنوات يتيمة في المخيم، وتوفي والدها أثناء الحرب. أثارت هذه الوفاة غضب مؤيدي ترحيل الرعايا الفرنسيين المحتجزين في سوريا إلى فرنسا، مثل المحامية الجنائية ماري دوسيه.
إذاً بدا منذ الآن فصاعداً أنه لا جدال في أنّ الدول المختلفة التي قدمت وحدات من المسلحين والمتعاطفين مع تنظيم داعش في بلاد الشام قد بدأت في ترتيب ترحيلٍ تدريجي لهؤلاء إلى بلدهم الأصلي إلا أنّ هناك اتجاهاً آخر قد ظهر أيضاً: بالنسبة للغالبية العظمى من الحالات، خاصة الأوروبية والأمريكية الشمالية فلم يتم ترحيل سوى النساء والأطفال في الوقت الحالي. يظل إجلاء الرجال، ومعظمهم من المقاتلين السابقين في صفوف داعش، في الوقت الحالي، قضية لا تجرؤ الحكومات المختلفة على التعبير عن رأيها فيها بوضوح، مع الإشارة إلى أنّ القاضي كان قد أمر السلطات الكندية بترحيل رعاياها في 13 كانون الثاني (يناير) 2021 إذ أمر أوتاوا بعد أسبوع بإجلاء 4 مواطنين كنديين محتجزين في شمال شرق سوريا. في الوقت الحالي هناك فقط كازاخستان (37 محتجزاً) ودول البلقان (8 محتجزين من البوسنة والهرسك و4 من كوسوفو) والولايات المتحدة (3 محتجزين) وإيطاليا (سجين واحد، وهو سمير بوقانة، مقاتل مغربي إيطالي انضم إلى داعش في 2015 ) التي رحّلت رجالا.
خلاصة عامة
إذا طغى وباء كوفيد 19 ثم الحرب في أوكرانيا على الأخبار الأمنية المرتبطة بداعش على الرغم من استمرار نشاط التنظيم في الشرق الأوسط، فإنه يبدو أنّ العام الماضي قد أظهر التهديد الحقيقي الذي تشكله قبضة سجون داعش، بين محاولات الهروب الجماعي والتنظيم المتزايد لخلايا داعش في داخلها. على الرغم من أنّ ترحيل مقاتلي داعش ستخفف بالضرورة الضغط الأمني والمالي على الأكراد السوريين إلا أنّ معظم المقاتلين الجهاديين السابقين الذين تم أسرهم في الأيام الأخيرة من الخلافة المعلنة لا يزالون موجودين في سوريا، ويشكل إطلاق سراحهم إحدى الأولويات العَمَلِياتية عند رفاقهم الطلقاء. مسألة الاستثمار الأكثر أهمية من قبل أعضاء التحالف الدولي أو دول أخرى ومنظمات دولية في تأمين قبضة السجون في سوريا – كما يطالب الأكراد منذ عام 2019 – وكذلك في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني في شمال شرق سوريا يظل اليوم على هذا النحو مسألة مفتوحة وأكثر فأكثر إلحاحاً.
مصدر الترجمة عن الفرنسية:
lesclesdumoyenorient