أحمد حافظ
يثبت تشدد الأزهر في الكثير من القضايا المجتمعية، وخلافا لما تريده الرئاسة المصرية، أنه لم يستوعب بعد حدود العلاقة مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، ويبدو كأنه ينازعه الصلاحيات أو يريد إحراجه أمام المواطنين، معتقدا أن بوسعه الاستمرار في فرض صيغته التي اكتسبها خلال حكم رؤساء سابقين.
وأظهر السيسي احتراما وتقديرا لشيخ الأزهر أحمد الطيب في مناسبات عديدة، وكان صبورا معه في قضايا ملحة تستوجب ديناميكية كبيرة، لكنه خيب ظنه إلى درجة أنه أُجبِر على استخدام صلاحياته لوضع حد لبعض الفتاوى التي لا تتماشى مع واقع المصريين، وهو ما يعني أن سلطة الأزهر قد يتم تقويضها تدريجيا وقد يصل الوضع إلى الصدام بين السلطتين الدينية والسياسية.
اعتمد شيخ الأزهر على سلطته الروحية وتصور أنه يحتمي بإرث ممتد سيساعده على مواصلة التحدي والرفض في قضايا عاجلة تؤرق الدولة والمجتمع وتناسى أن رئيس الدولة يملك من الصلاحيات ما يمكّنه من تجاوزه أصلا.
وجاءت أول ضربة مباشرة في ملف الطلاق الشفهي الذي اعترض عليه الأزهر منذ سنوات، بما أحرج السيسي آنذاك، وظهر الأزهر سلطة فوق الدولة.
وأعاد السيسي الخلاف مع الأزهر إلى الواجهة مرة أخرى بتأكيده أن مسألة إلغاء الطلاق الشفهي واستبداله بالطلاق الموثق أصبحت أمرا لا مفر منه، في تحدٍ واضح وصريح. وخلال احتفالية المرأة المصرية الاثنين منح مجلسَ النواب الضوء الأخضر لتمرير قانون الأسرة المصرية الذي يتضمن إلغاء الطلاق الشفهي، وإذا رغب الرجل في إنهاء العلاقة الزوجية عليه أن يوثق الطلاق، وغير ذلك لن يُعتد به.
وبذلك أزاح السيسي الأزهر عن تصدر المشهد بتأكيده في احتفالية غاب عنها شيخه أحمد الطيب “أنه (السيسي) سيتحمل الذنب إذا جرى تمرير القانون الأسري بما يخالف الشريعة الإسلامية”، رافعا العبء عن الأزهر ومطالبته ضمنيا بالابتعاد عن القضية.
وأظهر الأزهر تحديا للسلطة من قبل، وأعاد رفض إقرار تشريع عصري لقانون الأسرة وعدم الاعتراف باعتماد الطلاق الموثق بدلا من الشفهي، في تكرار لتحدي هيئة كبار العلماء عندما رفضت منذ خمس سنوات إلغاء الطلاق الشفهي.
آنذاك أثار بيان للأزهر جدلا سياسيا ودينيا واسعا لكونه صدر ردا على دعوة السيسي إلى إعداد تشريع يقر عدم وقوع الطلاق إلا أمام المأذون الشرعي، وبالتالي يتم إلغاء الطلاق الشفهي، ما دفع المؤسسة الدينية إلى التحرك نحو إجهاض الفكرة.
ويُدرك الرئيس المصري حتمية وضع حد لنفوذ الأزهر وتقييده يد السلطة في إقرار تشريعات عصرية تتناقض مع التراث الذي يتمسك به الأزهر ويستند إليه في غالبية مواقفه، وبدا أنه ضاق ذرعا بالجمود الذي يعتري قادة الأزهر وعدم تجاوبهم معه.
ويعوّل النظام المصري في معركته مع الأزهر على وسائل الإعلام والمفكرين والكتاب والمثقفين والبرلمان، في حين تستند المؤسسة الدينية على السلفيين والإخوان ومنابرهم وقواعدهم لتجييش الشارع ضد سعي السلطة لإلغاء الطلاق الشفهي.
ومع كل محاولة لإلغاء الطلاق الشفهي واستبداله بالموثق يروج السلفيون والإخوان أن النظام المصري يتعمد سن قانون يخالف الدين ويكرس علاقات أسرية محرمة، لا تتفق مع الشريعة، وهي نفس رؤية الأزهر.
واعتاد الأزهر التحجج بالأحكام الشرعية لإضفاء حصانة دينية على تحركاته، باعتبار أن هذه النبرة تمثل إزعاجا للحكومة وتجذب المعارضين لأي تحرك يخالف الدين.
وترفض الحكومة تحول الأزهر إلى سلطة موازية في المسائل المرتبطة بالنواحي الاجتماعية وتوظيف الفتوى لتحقيق المزيد من النفوذ والتغلغل بشكل يحقق الأهداف الفكرية لتيار الإسلام السياسي في ظل تدخل بعض شيوخه في السياسة والاقتصاد.
ويتعامل الأزهر مع الأحوال الشخصية باعتبار أن القانون من سلطاته الدينية وحده، مع أن هناك مسائل أسرية تجاوزت ذلك وتحتاج إلى حلول عقلانية تتطلب انفتاحا وواقعية تلامس المبادئ المدنية، ما يستوجب تدخلا بإرادة سياسية قوية.
وأوحى خطاب السيسي في احتفالية عيد الأم بأنه لن يرضخ لموقف الأزهر في مسألة الطلاق الموثق وسوف تمضي الحكومة ومعها نواب البرلمان في تمرير الرؤية الخاصة بإلغاء الطلاق الشفهي من خلال الاستعانة بدار الإفتاء التي تبدي مرونة.
ووقف مفتي الجمهورية شوقي علام أمام السيسي والحاضرين في احتفالية المرأة المصرية ليعلن أن دار الإفتاء تلقت 300 ألف استفسار عن الطلاق الشفهي، ولم يقع منها سوى اثنين فقط، في محاولة لإقناع المجتمع بجدوى إلغاء الطلاق الشفهي وتقديم نفسها للسلطة كبديل عن الأزهر.
وأكد البرلماني السابق والباحث في شؤون الأديان محمد أبوحامد لـ”العرب” أن تمرير رؤية الرئيس السيسي بإلغاء الطلاق الشفهي واستبداله بالموثق وارد بقوة، حتى لو رفض الأزهر لأن استطلاع رأيه في ما يلامس الشريعة إجراء وجوبي، لكن الأخذ برأيه ليس ملزما لمجلس النواب.
وقال إن “الأزهر ليس من حقه دستوريا أن يتمسك بوضع بنود قانونية محددة، فقط يدلي برأيه، وتظل المعضلة في مدى تقبل الشارع لتمسك الدولة بإقرار تشريع يتحفظ عليه الأزهر، لذلك قد يتمرد الشارع على القانون طالما أنه محاط بشبهة التحريم”.
وتابع “عن معرفة شخصية، فإن شيخ الأزهر أكثر انفتاحا عندما يتم التواصل معه بشكل مباشر وعدم تجاهله وفرض الأمر الواقع عليه، وإدارة المسائل الدينية تحتاج إلى حنكة وحكمة سياسية”.
وأصبح النظام المصري في موقف صعب، فهو لا يريد الظهور بأنه قليل الحيلة أمام جمود الأزهر في حل قضية بالغة الخطورة تفرض على السلطة إقرار حلول جذرية لها، ويتجنّب الدخول في صدام مع شارع يتشكك في بعض توجهات الحكومة.
ويتضمّن الصدام هذه المرة أبعادا دينية بالغة الحساسية، وهي مسألة تفرض على الحكومة المزيد من الحنكة السياسية، فمن السهل أن تمرر قانونا يزيد الأعباء الاقتصادية، لكن من الصعب إجبار الناس على التعاطي مع قانون مشكوك فيه دينيا.
ومن شأن الأزمة الراهنة أن توسع الفجوة بين الرئيس السيسي والأزهر بشكل يعيد فتح الباب لنقاش مجتمعي واستقطاب ديني يصعب تطويقهما في توقيت دقيق، بينما تفرض التحديات الاقتصادية على الحكومة ردم بؤر الصراع القائمة على أساس فقهي.
وتشكل هذه الأزمة اختبارا قويا لإرادة النظام وجرأته في مواجهة العقلية السلفية التي سيطرت على نسبة كبيرة في المجتمع، وتتحكم في توجهات الأزهر وفتاواه.
المصدر العرب اللندنية