أحمد حافظ
لاحظ متابعو الفضائيات المصرية تراجع ما يسمى بـ”إعلانات التسول” لدعم المستشفيات وجمع التبرعات للفقراء، والتي كانت تثير اشمئزاز شريحة كبيرة من المواطنين المشاهدين، لكن اللافت للانتباه هو سيطرة الإعلانات التي تروّج للرفاهية في سياق الدعاية للجمهورية الجديدة، ما يعتبره مراقبون أكثر استفزازا.
ورغم أهمية هذه الخطوة لدى البعض، فإنها عكست تناقضا في تصورات الحكومة التي تعمل على تجييش الجمعيات الخيرية خلفها لتوزيع الغذاء على الفقراء، لكنها انتبهت إلى ضرورة منع التبرع لهؤلاء أمام الإعلام.
وأطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبيْل شهر رمضان مبادرة “كتف في كتف” شاركت فيها العشرات من المنظمات الخيرية لتوزيع الملايين من كراتين المساعدات على الفقراء، وهي المبادرة التي اعتبرتها الحكومة الحدث الخيري الأكبر في البلاد لأنها تستهدف القضاء على الفقر.
وربط مؤيدون للحكومة اختفاء ما يوصف بإعلانات التسول ببرامج الحماية الاجتماعية التي أطلقتها الدولة وتوسعت فيها لمواجهة الغلاء والظروف المعيشية الصعبة للفئات الأكثر تضررا من برنامج الإصلاح الاقتصادي، ما يعني أن تدخل الدولة بالمساعدات أدى إلى عدم الحاجة لمثل هذه الإعلانات المسيئة لصورة مصر الجديدة.
وكان رمضان موسما لإعلانات الجمعيات الخيرية والمنظمات والهيئات والمستشفيات لطلب التبرعات التي تستحوذ على أكثر من 50 في المئة من إعلانات الفضائيات، رغم أن محتواها أساء لصورة مصر حيث بدا المجتمع الذي يحوي أغنياء وفقراء كأن كل فئاته بائسة وقليلة الحيلة، وسط تساؤلات عن دور الحكومة.
وأدت فرملة هذه النوعية من الإعلانات، لحساب أخرى تظهر المنتجعات الفاخرة وشبكات المحمول والسلع الغذائية المتوافرة، إلى تضرر الجمعيات التي نشأت على أساس تلقي المساعدات، والتي من المتوقع أن تنخفض التبرعات لها إذا لم تجد وسيلة أخرى.
ويعتقد خبراء في السياسة أن ثمة تدخلات رسمية لضبط إيقاع إعلانات رمضان، كي لا يتكرر ظهور الدولة في صورة مشوهة الملامح يعيش معظم سكانها حياة غير كريمة، إلا من فئة قليلة لها مصر أخرى تنعم فيها، ولا يمكن إقناع الشارع بإصلاحات ونتائج تنموية والناس يتسولون الغذاء والعلاج.
إكرام بدرالدين: إعلانات التبرع جزء من التكافل الاجتماعي في أي بلد، لكن هناك مؤسسات تقدمها للجمهور بصورة مستفزة
ولا ينكر أحمد محمد، وهو مدرس في إحدى المدارس الثانوية ورب أسرة من متوسطي الدخل ويقيم في القاهرة، أنه صار يشعر بالراحة النفسية نتيجة اختفاء إعلانات التسول التي كانت تبتز الناس بمشاهد مأساوية طوال شهر رمضان، لكنه لا يستبعد أن يكون حجب الإعلانات “المسيئة” ناتجا عن تدخل حكومي، وربما رئاسي، لأن الدولة تريد إقناع الناس بأن الظروف تحسنت والأوضاع تغيرت، ولم يعد هناك فقراء.
وأضاف لـ”العرب” أن “اختفاء إعلانات التبرع بالطعام والشراب والعلاج لا يعني أن المصريين يعيشون في نعيم، وكل ما في الأمر أن الحكومة تريد القول بأنها عندما تدخلت بمساعدات للفقراء، مثل معاشات “تكافل وكرامة” ومنافذ الغذاء التابعة للجيش والشرطة ومشروع تطوير الريف، لم تعد هناك قيمة لإعلانات التسول”.
ولا ترغب الحكومة في استمرار ظهور المجتمع بأنه يعاني من الفقر وغلاء المعيشة والإنهاك الصحي والتعليمي، وهي التي تتعامل مع هذه الملفات باعتبارها أساس حقوق الإنسان وأي انتهاك أو تقصير في هذه القطاعات يشيان بأن الحكومة تدين نفسها أخلاقيا وحقوقيا، طالما أنها تتعامل مع مطالب المواطنين من منظور تنموي.
ولم تتوقف إعلانات التبرعات بشكل كلّي، لكن ما تبقى منها -وهو قليل- تغيرت فيه الثيمة الرئيسية؛ حيث أصبحت مقتصرة على دعوة الناس إلى مشاركة البسطاء فرحتهم، وحث الأغنياء على التبرع لعدد محدود من المستشفيات مثل مستشفى الدكتور مجدي يعقوب، وهي نوعية هادئة ومتحضرة من الإعلانات تدفع الناس نحو الخير ولا تجرح أو تحرج الحكومة والمواطنين.
وقال رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة إكرام بدرالدين “من الطبيعي عندما يكون هناك دور متصاعد للدولة على المستوى التنموي والاجتماعي والخدمي أن ينعكس على اختفاء حملات التبرع، لأن استمرار الإعلانات المثيرة لمشاعر الناس يثير الشكوك في الإصلاحات وبرامج الحماية التي تستهدف القضاء على الفقر”.
وأوضح لـ”العرب” أن “إعلانات التبرع جزء من التكافل الاجتماعي في أي بلد، لكن هناك مؤسسات تقدمها للجمهور بصورة مستفزة أوحت بأن الحكومة المصرية رفعت يديها عن تحمل المسؤولية، وهذا غير صحيح، وكانت هذه الحملات الإعلانية تؤثر على صورة الدولة، ومن الحكمة تصويب مسارها ومضمونها”.
وتمتلك الحكومة غالبية القنوات الفضائية التي تستحوذ على النسبة الأكبر من حصة الإعلانات، ما يجعلها تتحكم في كل ما يبث على شاشاتها ويصعب إذاعة محتوى يتعارض مع توجهاتها. لكن المعضلة أنه أمام تراجع إعلانات التسول صارت الغلبة لتلك التي تروج للرفاهية دون اكتراث بمعاناة البسطاء من خلال بث مشاهد أكثر استفزازا، فليس مطلوبا من الحكومة عندما تخفي استمرار الفقر أن تقدم الرفاهية.
ومن المؤكد أن غياب المتاجرة باحتياجات الفقراء واللعب على وتر العمل الخيري في رمضان ليس صدفة، فهو رسالة إعلامية غير مباشرة من الحكومة مفادها أن برامج الحماية الاجتماعية وقراراتها الاقتصادية الصعبة التي تحمّلها الناس بدأت تؤتي أكلها، بدليل أن مشاهد البؤس التي سادت في الإعلام لم تعد موجودة، ما يشير إلى أن ما تم إعلانه حول انخفاض معدلات الفقر إلى أقل من 30 في المئة ظهر على الأرض.
كما أن ذلك يدعم التصور الذي يتم الترويج له إعلاميا عبر الإعلانات الفضائية بأن الجمهورية الجديدة التي يسعى الرئيس السيسي لتثبيت أركانها سوف تكون مغايرة تماما للشكل السابق، حيث تختفي مشاهد الفقر والجوع والمرض.
المصدر العرب اللندنية