سراج الدين الصعيدي
كاتب مصري
نالت دولة موريتانيا الأفريقية لقب آخر معقل للعبودية، في ظل فشل الحكومة المستمر في مواجهة هذه الظاهرة المقلقة، رغم إصدار الكثير من القوانين والتعليمات لمنع هذه الممارسة المحرمة دولياً.
واعترفت الحكومة ضمنياً بأنّ الظاهرة ما زالت قائمة، وبأنّ القضاء عاجز أمامها، ولم يستطع تغيير أيّ اعتبارات متعارف عليها داخل المجتمع الموريتاني، بما يتعلق باستعباد البشر بالعنصرية بين أبناء المجتمع الواحد بحسب اللون أو النسب.
الاعتراف جاء على شكل حملة وطنية أطلقتها أخيراً وزارة العدل الموريتانية، لتوعية سلطات إنفاذ القانون حول المعالجة القضائية لقضايا الاتجار بالأشخاص والممارسات الاستعبادية.
وبحسب وزارة العدل، فإنّ هذه الحملة تهدف إلى الوقوف على مختلف العوائق التي تحول دون التطبيقات العملية للقوانين المجرّمة للعبودية والممارسات الاستعبادية، ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وحماية الضحايا، وفق ما نقلت قناة المشهد.
وتأتي الحملة أيضاً في ظل حديث منظمات وهيئات حقوقية بأنّ القوانين التي سنّتها الحكومة لا يتم تطبيقهاعلى أكمل وجه في الممارسات العملية.
وبحسب المستشار الفني لوزير العدل عمر ولد القاسم، فإنّ هذه الحملة تدخل في إطار الجهود الرامية إلى مكافحة الاتجار بالبشر، تماشياً مع توجيهات الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وتجسيداً لإعلان السياسة العامة للحكومة.
وقال ولد القاسم: إنّ هذه الحملة التي تستمر على مدى شهر كامل تهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف، أهمها: الوقوف مع المشاركين في الحملة على مختلف التطبيقات العملية للقوانين الناظمة للمجال، والرصد الدقيق للوقائع المتعلقة بالاتجار بالبشر، والممارسات الاستعبادية، وإجراء بحوث وتحقيقات مجدية في هذا المجال.
وبحسب إحصائيات أصدرتها أخيراً الأمم المتحدة، فإنّه بموجب قوانين مكافحة الرق في موريتانيا، تم رفع (47) قضية حتى عام 2021، نُظر في (27) منها فقط.
وترى منظمات حقوقية محلية ودولية أنّ القضاء الذي يطبق القوانين المتعلقة بمكافحة الرق يحكم بأحكام مخففة على المدانين بممارسة العبودية، لا تتناسب مع حجم الجريمة التي يرتكبها الكثيرون، كالحكم بالسجن لعام أو عامين لمدان تاجر بالعشرات من البشر.
هذا، وحاولت الورقة التي صدرت عن مبادرة الإصلاح العربي، وانتشرت عبر موقعها الإلكتروني، توضيح أسباب فشل الجهود الرسمية الرامية إلى القضاء على العبودية في موريتانيا، كما تناقش الورقة الاقتصاد الموريتاني والآراء الرسمية للحكومة بخصوص العبودية، وتقدم بعض التوصيات لإنهاء العبودية والأوضاع الشبيهة بها في البلاد.
وبحسب مؤشر الرق العالمي، فإنّ هناك (90) ألف شخص يعيشون في ظل العبودية المتوارثة في موريتانيا وعلى أرض الواقع، وفق ما نقلت وكالة “فرانس برس”.
ويُعدّ هذا شكلاً من أشكال العبودية القائمة على أساس النسب، التي تعامل البشر على أنّهم ممتلكات، مع فرض هذه الممارسات بالقوة. فضلاً عن أنّ ما يقرب من (500) ألف شخص آخرين يعيشون تحت وطأة العبودية الحديثة، أو “الأوضاع الشبيهة بالعبودية”، حسبما أوردت الأمم المتحدة في تقرير سابق لها.
وبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في 2016، أشار إلى أنّ (43) ألف شخص، أي حوالي 1% من الشعب الموريتاني، كانوا يرزحون تحت وطأة الممارسات الاستعبادية.
وتتسم العبودية في موريتانيا أيضاً، وفق المنظمة، بأنّها عبودية ذات نزعة عنصرية، ففي بلد يعاني سكانه من الفقر المدقع إلى حد كبير، تهيمن النخبة العربية-البربرية، دون هوادة، على مفاصل الدولة الموريتانية واقتصادها، وهي مجموعة إقصائية وعدوانية، يعرفون أنفسهم على أنّهم بِيض (أو “البِيضان”)، ويمثلون 30% من السكان على الأكثر. أمّا المُستعبَدون، فهُم السود من داخل المجال اللغوي والثقافي العربي الإسلامي في موريتانيا (العرب السود أو “السودان”). في حين يُطلق على السود الذين تحرروا من العبودية، وهو العُرف الذي دام قروناً عديدة في موريتانيا، لقب “الحراطين” الذين يشكلون والسود المستعبدون نحو 40% من السكان. وفي بعض الأحيان يُشير مصطلح الحراطين إلى “العبيد” إضافة إلى “العبيد” السود المُحرَّرين.
ووفقاً لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير لها صدر منتصف العام الماضي، فإنّ الموريتانيين السود غير الناطقين باللغة العربية -الجماعات الإثنية الموريتانية، الهالبولار والفلاني والسُّنِنكي والوولوف والبامبارا- لم يُستعبَدوا قط من قبل البِيض الموريتانيين، على الرغم من أنّهم يتشاركون في الأصل الإثني العرقي نفسه مع الحراطين المستعربين؛ وهم يشكلون نحو 30% من سكان البلاد.
وفي السياق ذاته، كانت السلطات الموريتانية قد أصدرت في 22 أيار (مايو) 2022 قراراً بالترخيص لمبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية المعروفة بحركة “إيرا”، بعد مرور (13) عاماً على تأسيسها، بهدف المطالبة بالقضاء على الرق والدفاع عن حقوق الرقيق السابقين.
وقد تفاءل البعض في موريتانيا بهذه الخطوة، التي اعتبروا أنّها تأتي في إطار تناول أكثر صراحة لقضية الممارسات الاستعبادية في البلاد من قبل الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، مقارنة بما وصف بالتجاهل والإنكار من قبل من سبقوه في سدة الحكم. ولكن هناك من يتحدثون عن استمرار غياب رغبة سياسية حقيقية لحلّ المشكلة ومساعدة من يعانون منها ومن آثارها.
وفي تصريح للسياسي الموريتاني المعارض ورئيس حركة “إيرا” بيرام الداه أعبيد لـ “بي بي سي” فإنّ الأعداد والنسب الحقيقية للذين يتعرضون للاستعباد في البلاد أكثر بكثير من المعلنة.
ولا توجد إحصاءات رسمية لحجم المشكلة، وعادة ما دفعت الحكومات الموريتانية المتعاقبة بأنّ الأرقام الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية مبالغ فيها، وأنّ القضية تُستغل لأغراض سياسية.
ويلاحظ المتابع لتصريحات المسؤولين الحكوميين في موريتانيا خلال العقد الماضي أنّها تفاوتت، ما بين تجاهل تام لوجود ممارسات استعبادية في البلاد، وبين اعتراف بوجودها، ولكن في شكل حالات منعزلة في المناطق الريفية النائية.
وحول الموضوع قال نائب نقيب الصحفيين الموريتانيين عزيز ولد الصوفي: إنّ “العبودية كممارسة علنية غير موجودة في موريتانيا، ولكن هناك فقط آثار ومخلفات لتلك الظاهرة المشينة”، وهو رأي يوافقه فيه د. سيدي محمد ولد المصطفى ولد الجيد رئيس الجمعية الموريتانية لعلم الاجتماع، الذي يرى أنّ “الممارسات ذات الطبيعة الاسترقاقية أو الاستعبادية لم تعد قائمة، على الأقل بنمطها الكلاسيكي الفج بالمجتمع الموريتاني بأيّ حال من الأحوال، نظراً لوجود ترسانة قانونية محكمة تجرّمها بشكل صريح وقاطع”، ولكنّه يقر بأنّ المجتمع الموريتاني ما زال “يعاني من الرواسب الاجتماعية لهذه الظاهرة المقيتة، حيث يلاحظ من وقت إلى آخر الاشتباه في حالات فردية ومعزولة تدخل في هذا السياق”.
أمّا رئيس حركة “إيرا” بيرام الداه أعبيد، فيقول: إنّ الضحايا “يرزحون تحت عبودية وراثية عن طريق خط الأم، يولدون ملكاً لآخرين يتصرفون في حقوقهم وحياتهم وفي عضلاتهم وعرق جبينهم تصرف المالك لملكه. بل بعضهم يتصرف في فروج النساء العبدات وذريتهم التي تعطى كهدية زواج أو مولود جديد من أبناء النبلاء، مؤكداً أنّ هذه الجريمة منتشرة في موريتانيا، وممارستها الآن كممارستها في العصور الغابرة عند العرب والأفارقة. إذاً هي ليست عبودية حديثة، ولكنّها عبودية تقليدية منتشرة، وكثرٌ هم ضحاياها”.
وتحدث البروفيسور ستيفين كينغ الأستاذ في جامعة جورج تاون في ورقة بحثية نشرتها مبادرة الإصلاح العربي في آب (أغسطس) الماضي عن نوعين من العبودية في موريتانيا؛ أوّلهما العبودية المتوارثة القائمة على أساس النسب “التي تعامل البشر على أنّهم ممتلكات”، فضلاً عن آخرين “يعيشون تحت وطأة العبودية الحديثة أو الأوضاع الشبيهة بالعبودية”.
وتعلن المنظمات الحقوقية في البلاد بين الحين والآخر عن اكتشاف حالات استرقاق في الكثير من المدن الموريتانية.
ووفقاً لتقرير الخارجية الأمريكية حول الاتجار بالبشر لعام 2020، حققت موريتانيا في قضية واحدة، وأدانت (5) أشخاص بتهمة الاتجار بالبشر. ويشير التقرير إلى أنّه لم يتم احتجاز أيّ مالك من ملّاك العبيد في السجن.
ورغم المرسوم الرئاسي الذي ألغيت بموجبه العبودية في موريتانيا عام 1981، إلا أنّه لم تُسَنّ حينها قوانين جنائية لفرض هذا الحظر.
في عام 2007 أصدرت موريتانيا قانوناً يسمح بمقاضاة مالكي العبيد، ولكن نادراً ما تم تطبيقه، وفق حقوقيين محليين ودوليين، وفقاً لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، بل إنّ عدداً كبيراً من الحقوقيين المناهضين للعبودية تعرّضوا للملاحقة القضائية والسجن.
وفي عام 2015 أنشأت الحكومة الموريتانية (3) محاكم خاصة لمحاكمة المتهمين بممارسات العبودية، ولكنّها أيضاً لم تحقق سوى في القليل من الحالات.
وسعى الرئيس الغزواني منذ أن جاء إلى سدة الحكم إلى المصالحة مع جماعات المعارضة، وتطرق إلى مسألة العلاقات بين الأعراق، وعيّن رئيس وزراء ينتمي إلى فئة “الحراطين”.
واستضافت الحكومة الموريتانية وفداً من جماعة ضغط أمريكية تحارب العبودية تُدعى “Abolition Group” ، كانت قد مُنعت من دخول البلاد من قبل.
كما التقى الغزواني بالسياسي المعارض ورئيس حركة “إيرا” بيرام أعبيد، ومنحت حكومته ترخيصاً للحركة التي تعرّض نشطاؤها للسجن في السابق، بمن فيهم بيرام أعبيد.
المصدر حفريات