هشام النجار
بعد أن أدركت أنها باتت عاجزة عن مواصلة هيمنتها التاريخية على غرب أفريقيا بالوسائل التقليدية، تتجه باريس نحو تغيير سياستها بعقد تفاهمات مع الجهاديين في غرب أفريقيا محاولة الحفاظ على مصالحها في ظل توسع النفوذ الروسي هناك، وخوفا من تكرار سيناريو طالبان في المنطقة.
ورسمت العديد من الشواهد ملامح مرحلة تحول في إستراتيجية فرنسا بدول الساحل الأفريقي، وتبيّن أن أعداء الأمس بصدد طيّ صفحة الصراع الذي استغرق قرابة العقد لتحقيق مصالح مشتركة.
واختلفت نظرة فرنسا لتنظيم القاعدة بمنطقة الساحل المرتبط بفرع التنظيم في بلاد المغرب الإسلامي عقب الانسحاب الاضطراري لقواتها من المنطقة، وبدا أن الطرفين رسخت لديهما قناعة مفادها أن كليهما في حاجة إلى الآخر، وهو ما يفتح المجال لسيناريوهات استنساخ الحالة الأفغانية، الأمر الذي يقلب المعادلات في وجه بعض اللاعبين داخل هذه الساحة الحيوية.
وبعد أسبوعين من إطلاق تنظيم القاعدة سراح الصحافي الفرنسي أوليفييه دوبوا إلى جانب أميركي آخر كان رهينة عند التنظيم، أجرت قناة فرانس 24 الإخبارية الرسمية نهاية مارس الماضي، في سابقة هي الأولى من نوعها، حوارًا مطولا مع زعيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أبوعبيدة يوسف العنابي تحدث فيه كثيرا عن الملفات الإقليمية والدولية. وطغى على كلام العنابي أثناء الحوار سمت المروجين للنماذج المحلية للقاعدة، كحالة الشمال السوري، ووضح تأثير التغييرات التي أحدثها صعود حركة طالبان للسلطة على قادة القاعدة الذين بقوا على قيد الحياة، حيث شدد الرجل على الالتزام بالقتال في أفريقيا وتأسيس تجارب حكم محلية وعدم استهداف الدول الغربية أو تهديد مصالح فرنسا.
سياسة بديلة
تفكير الأجهزة الفرنسية يتمحور حول اختراق الحالة الجهادية بأدوات وحلفاء جدد يتيح لها ضمان عدم تهديدها
افترض البعض على ضوء التطورات الأخيرة الخاصة بإطلاق سراح الرهينة الفرنسية ومنح حيز إعلامي كبير بوسيلة إعلام رسمية لزعيم جماعة إرهابية وجود إستراتيجية بديلة لفرنسا التي تمرّ بمرحلة انحسار لوجودها في دول غرب أفريقيا المهمة لها من النواحي التاريخية والاقتصادية والأمنية.
ويدفع التمدد الروسي المتصاعد في دول الساحل الأفريقي بالتوازي توازيا مع الفشل الفرنسي السياسي والعسكري باريس، والتي تغنت بشعار محاربة الإرهاب، إلى اجراء تفاهمات مع بعض كيانات القاعدة بهدف حماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية بعد أن طالبها فاعلون تقليديون ونخب أفريقية بالرحيل.
وتتشبث فرنسا بالبقاء بوصفها قوة رئيسية في القارة لتأمين حصتها من كعكة الموارد والثروات، وصد محاولات فرض أمر واقع جديد من قبل قوى دولية منافسة، خاصة روسيا.
وبات الوضع في غرب أفريقيا بمثابة صراع مواز تخوضه القوتان لا يقل أهميته عن ذلك الدائر في شرق أوروبا.
وتنظر باريس وموسكو إلى انتصارهما في صراع النفوذ بالساحل الأفريقي من عدمه كعامل ترجيح رئيسي في الصراع المحتدم الدائر في أوكرانيا بين الناتو والولايات المتحدة من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى.
القوى المنافسة لفرنسا في الغرب الأفريقي لعبت دورًا مهمًا في تنامي مشاعر العداء والنفور الشعبي والنخبوي ضدها
وشرعت فرنسا في تقديم نفسها بوجه جديد على خلفية خبراتها الممتدة ومعرفتها بخبايا الجماعات الإرهابية في الساحل ليس لمكافحتها وتكريس سلطة حلفاء عسكريين هذه المرة، وإنما لإثبات قدرتها على التحكم بورقة كيانات غير نظامية تملك نفوذًا قويًا على الأرض، وتفرض شروطًا على السلطات الحاكمة لقبول التفاوض.
ويبدو التلويح بورقة توظيف الأيديولوجيا الجهادية من قِبل فرنسا مقلقا لبعض أطراف المعادلة الرئيسية، فعودة باريس بقوة عبر هذا المسار وتقوية شوكة جماعات هي في الأصل حاضرة بقوة وتتمدد في مالي وبوركينا فاسو ودول أفريقية أخرى وتجند عناصر محلية من شأنه خلق توازنات مغايرة على الأقل في منطقة الساحل والصحراء.
ويتبع يوسف العنابي زعيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي فروع تنظيم القاعدة التي تنشط على طول الشريط الشمالي الغربي الذي يشمل مالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا وتضم قرابة الأربعين ألف مقاتل موزعة على مجموعتين يقودهما إياد غالي وأمادو كوفا شمال ووسط مالي.
وتستبق فرنسا الأحداث عبر تحييد جزء مهم من الحالة الجهادية بالساحل لئلا ينعكس فشل القوات الحكومية المالية وشركاؤها الجدد من مجموعة فاغنر الروسية في مكافحة الإرهاب بالسلب عليها وعلى مصالحها.
العداء وتوظيف النفور
المجموعات الجهادية التابعة للقاعدة تخفف عبر دعاياتها الضغط عن فرنسا بنقل جزء من السخط الشعبي إلى السلطة العسكرية
يتمحور تفكير الأجهزة الفرنسية حول اختراق الحالة الجهادية بأدوات وحلفاء جدد، ما يتيح لها ضمان عدم تهديدها من قبل كيانات القاعدة التي تتبنى الجهاد المعولم أو داعش الذي يُقدّر عدد أفراده بخمسين ألف مقاتل موزعين بين شمال نيجيريا والنيجر ومالي وبوركينا فاسو.
ويضمن تحييد تنظيم القاعدة صاحب البعد المحلي لفرنسا استمرار الصراع بين داعش والقاعدة والحيلولة دون حدوث تحول باتجاه الاندماج والتعاون بينهما كما توقع البعض، ويحمل هذا السيناريو في طياته تهديدًا مضاعفًا للجميع بما يشكله من خطر كبير على أمن المنطقة واستقرارها.
وتعي فرنسا جيدًا خلال هذه المرحلة أنها باتت عاجزة عن إنتاج هيمنتها التاريخية على غرب أفريقيا بالوسائل التقليدية لرعاية نفوذها الثقافي وحماية مصالحها الاقتصادية.
ولعبت القوى المنافسة لفرنسا في الغرب الأفريقي دورًا مهمًا في تنامي مشاعر العداء والنفور الشعبي والنخبوي ضدها عبر بناء سردية دعائية مفادها أن باريس تأخذ ولا تعطي وتستغل ثروات الأفارقة دون أن تمنحهم الحماية الكافية أو تقف إلى جانبهم وقت الأزمات.
وأدى تأجيج مشاعر العداء ضد فرنسا إلى استدعاء ماضيها الاستعماري وتشكيل رأي عام مناهض لوجودها في غرب أفريقيا بجميع أشكاله العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، فضلًا عن تعرض سفاراتها ومؤسساتها الثقافية في دول أفريقية للاعتداء، كما حدث في بوركينا فاسو.
فرنسا تسعى لحماية مصالحها وتحرص على عدم استمرار القاعدة في استهداف جيوش القوات الأممية المرابطة في المنطقة
ولن تخسر باريس أكثر مما خسرته على مستوى تلويث السُمعة بعد أن بات المزاج الأفريقي العام ضدها إذا تحولت إلى مسارات التفاهم والتعاون مع كيانات جهادية تابعة للقاعدة لحماية مصالحها استنادًا إلى نفوذ جماعات يُصادف أنها في حاجة إلى هذه الشراكة لتحقيق أهدافها الخاصة بها.
ومع أن جزءًا من دعاية القاعدة يقوم على مزاعم العداء للغرب فهذا لا يعدو كونه مجرد شعارات تُستخدم في التنافس المحتدم مع داعش، ولا يغير شيئًا من أن تنظيم القاعدة فقد مكانته في مشهد التطرف العابر للحدود.
ولم يتحقق هذا فقط بمبادرات ذاتية من القاعدة قادت إلى تحولات في تكتيكاته باتجاه تدشين تجارب حكم محلية بمعزل عن استهداف الغرب وإنما ساعدت بعض الأجهزة الغربية هذا التوجه ودعمته.
وليس أدل على ذلك من أن قتل فرنسا لقائد القاعدة السابق ببلاد المغرب الإسلامي عبدالملك دروكدال (أبومصعب عبدالودود) الذي كان يتبنى الإرهاب المعولم صبّ في مصلحة خلفه يوسف العنابي الذي ينحاز لخوض تفاهمات مع الغرب لتحقيق مصالح متبادلة.
وتبقى دعاية القاعدة الخاصة باعتزامه المنافسة على زعامة الجهاد العالمي مجرد خداع زائف ومكشوف داخل إطار التنافس مع داعش، أما ما يسعى إليه فعليًا عبر فروعه التي باتت أقوى بكثير من مركزه فهو نيل الاعتراف من الغرب كشريك يقدم خدمات أمنية مقابل الاعتراف بسلطة حكمه وترجيح كفته في صراعه مع خصومه المحليين.
استنساخ طالبان
بعض الدول الغربية اضطرت في المرحلة السابقة للاستجابة أحيانا للمطالب المالية للإرهابيين من أجل إطلاق سراح مواطنيهم المخطوفين
بعد أن فقد تنظيم القاعدة المركزي ثقله وخسر شخصياته البارزة في هذا السياق مؤخرا، وأبرزهم أيمن الظواهري، بات معنيًا من خلال جهود قادة براغماتيين باستنساخ تجربة طالبان في أفغانستان بأكثر من ساحة وفي مقدمتها دول غرب أفريقيا عبر ترهيب التدخل الأجنبي وطرده وإضعاف الحكومات الوطنية ليحل محلها والتمهيد لتأسيس حكم ديني متشدد.
ووصل تأثر فروع القاعدة في أفريقيا بتجربة طالبان إلى حد الهوس عبر عقد مقارنات وطرح تصورات تعكس التشابه الكبير بين الحالتين، فطالبان مثلًا استعادت حكمًا سابقًا فقدته قبل عقدين وتطلب جماعات السلفية الجهادية في مالي ودول الساحل حكمًا شهدته المنطقة بالفعل مع إمارة أزواد الإسلامية التي استمرت حوالي تسعة أشهر.
ومن خلال هيكل قيادي مزج بين خبرات الحرس القديم وحماس جيل الشباب أعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة صراحة أنها بصدد تطبيق تجربة مماثلة لتجربة طالبان وطرد القوات الغربية والهيمنة على الحكم بالقوة.
وتخفف المجموعات الجهادية التابعة للقاعدة عبر دعاياتها الضغط عن فرنسا بنقل جزء من السخط الشعبي إلى السلطة العسكرية وشركائها الجدد من مرتزقة فاغنر واتهامهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان.
وتزيد تلك الاتهامات من تعقيدات الموقف أمام الحكومة والسلطة العسكرية بوصفها المعنية الأولى بتوفير الأمن للسكان وحمايتهم، علاوة على أن من يرتكب تلك الانتهاكات القاسية ضد المواطنين مجموعة تجمعها مع الحكومة اتفاقيات تعاون.
ويضع قادة القاعدة وعناصره الحكومة وشركاءها من مجموعة فاغنر في سلة واحدة مع داعش الذي يرتكب جرائم بشعة ضد المدنيين.
وتمتلك فرضية اتجاه فرنسا للتعاون مع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وفروع الجماعة في دول غرب أفريقيا ما يؤيدها فيما يتعلق بمنطقية التحول في هذا التوقيت الحرج ودوافعه على ضوء المكاسب التي يستطيع كل طرف تحقيقها للآخر.
وتسعى فرنسا لحماية مصالحها وتحرص على عدم استمرار القاعدة في استهداف جيوش القوات الأممية المرابطة في المنطقة، وهو ما يقوم به القاعدة بشكل متكرر، وتتوخى عدم تكرار سيناريو اختطاف الأجانب.
واضطرت بعض الدول الغربية في المرحلة السابقة للاستجابة أحيانا للمطالب المالية للإرهابيين من أجل إطلاق سراح مواطنيهم المخطوفين بعد أن بات هذا النشاط مصدرا مهما للتمويل بالنسبة إلى فروع القاعدة.
المصدر العرب اللندنية