حكيم مرزوقي
الأتراك يعرفون جيدا، وعبر التاريخ، ضاحية “باردو” في العاصمة التونسية، حيث تقع بنايتان على غاية من الجمال والرمزية والحساسية، وهما قصر المتحف الوطني، ومبنى البرلمان التونسي الذي كان في السابق مقرا لإقامة الملوك من البايات العثمانيين حتى دولة الاستقلال عام 1956.
منذ يومين، حل ركب السفير التركي في تونس شاغلار فهري شاكير ألب، في ساحة باردو التي شهدت يوم 25 يوليو 2021 تجمعا جماهيريا غاضبا أدى إلى حل البرلمان والإطاحة برئيسه آنذاك، راشد الغنوشي.
سلّم السفير التركي رئيس البرلمان التونسي الجديد إبراهيم بودربالة، رسالة خطية من نظيره التركي مصطفى شنطوب، في مشهد وُصف بطي صفحة العشرية الموجعة، وتصحيح العلاقة، وعودة الدفء إلى العلاقة التاريخية بين البلدين.
واضح أن السياسة التركية قديمها وحديثها، تتعامل مع الواقع كما هو كائن، لا كما يجب أن يكون، ولا ترضى عن سواه بديلا، مهما قيل عن مصالحها التي تزيد أو تنقص مع هذه الحكومة أو تلك بل إنها ترى من الحكمة أن تستمر علاقاتها مع الدول بوصفها هيئات ثابتة، وتتكيف مع سياساتها ومساراتها، مهما حل بالجهات التي تتقرب منها وتشتري ودها.
واضح أن السياسة التركية قديمها وحديثها، تتعامل مع الواقع كما هو كائن، لا كما يجب أن يكون، ولا ترضى عن سواه بديلا، مهما قيل عن مصالحها التي تزيد أو تنقص مع هذه الحكومة أو تلك
هذا ما حصل يوم الأربعاء الماضي حين عبّر السفير التركي عن ارتياحه للعلاقات الممتازة القائمة بين تونس وتركيا على جميع الأصعدة، شاكرا لتونس وقوفها إلى جانب تركيا ومؤازرتها لها في كارثة الزلزال الأخير، ومؤكدا “على ضرورة دعم العمل المتواصل وتطويره في مختلف المجالات ولاسيما في المجال البرلماني”.. ولا بد من التوقف هنا عند كلمة “البرلماني” أي ما بعد رئيسه راشد الغنوشي الذي أطيح به يوم 25 يوليو 2021، وهو الذي كان محسوبا على تركيا آنذاك، وكان يظنه الكثيرون الطفل المدلل لرجب طيب أردوغان، والنافذ في الدولة التونسية.
الحقيقة التي ينبغي أن يتنبه إليها العارفون والمحللون في الديمقراطيات العريقة والناشئة على حد سواء، هو أن لا مدلّل غير إرادات الشعب وقواه الحية الفاعلة، وقد قالت كلمتها يوم 25 يوليو 2021، ونفذها الرئيس التونسي قيس سعيد، الرافع لشعار “الشعب يريد” الذي التفت حوله غالبية من التونسيين.
قالت الدبلوماسية البرلمانية كلمتها إذن، وما على السلطات في كلا الدولتين إلا المزيد من التقارب والتعاون، وكأن لا شيء عكّر صفو العلاقة بين الدولتين في وقت مضى، حين كان الإسلاميون في تونس قد أخذتهم العزة بالحكم، وكذلك كان يفعل حزب العدالة والتنمية في تركيا قبل وقوفه عند حقائق إقليمية ودولية مكنته من تصحيح مساره.
يبدو أن أردوغان السياسي، قد انتصر على أردوغان ذي الخلفية الأيديولوجية أو بالأحرى، تصالح معها بما يخدم مصالح وطنه ويبقيه قويا، أما الغنوشي الذي أراد السيطرة على البرلمان والحكومة في وقت واحد، فقد خسر الاثنين معا، لأنه لم يفكر في مصالح وطنه وانبرى لخدمة أجندات خارجية كما يرى محللون ومراقبون.
الآن، وقد آلت الأمور إلى ما هو عليه من مراجعات في السياسات الخارجية لكل دولة، وبدأت ترجح كفة العقل وتغليب مصالح الشعوب ورفاهيتها على حساب كفة الأدلجة التي لا تؤدي إلا إلى التطرف والعنف، لم يخسر إلا الذين وضعوا كافة بيضهم في سلال الآخرين.
تبين لكل صاحب عقل يميل به للرشاد، أن دولة قامت وبنيت على المؤسسات مثل تونس، لا يمكن أن تحيدها عن طريقها جماعة من الفاسدين والمفسدين، مهما كانت الجهات التي تستقوي بها، ذلك أن التونسيين قد بلغوا من النضج عتيا ثم إن ما بُني على باطل فهو باطل.
لن نقول إن هناك شعبا يناصر الإسلاميين حتى ينفض من حولهم، وإنما تبين بالحجة والقرينة أن الفساد الذي ساد في العشرية الماضية، كاد يقضي على الدولة التي حلم بها بورقيبة، المتأثر بعلمانية كمال أتاتورك، دون استنساخ، ويحولها إلى إمارة على الطريقة الأفغانية أو الداعشية.. إمارة أمّارة بالسوء والظلم والفساد.
ولأن ما أنجزته تركيا الكمالية ظل حارسا وحاميا لمؤسسات الدولة المدنية إلى الآن، وبطريقة أكثر فعالية وجدوى حتى من المؤسسة العسكرية التي قلّم أظافرها أردوغان، ولو بشكل يختلف فيه المحللون، فإن على الدولتين التونسية والتركية أن تركّزا على نقاط اللقاء أكثر من نقاط الخلاف لأن ما يجمع أكثر مما يفرق بين شعبي بورقيبة وأتاتورك في الماضي، وكذلك قيس سعيد وأردوغان في الحاضر، ومهما تكاثرت الفروقات.
مازالت ساحة باردو أرض لقاء بين تونس وتركيا، وما زالت قبة قصر البرلمان الذي اتخذه البايات الحسينيون مقرا لحكمهم، وشهد عدة اتفاقيات حاسمة في تاريخ البلاد، مازالت هذه القبة تجمع سياسيي تونس بسياسيي تركيا إلى ما هو خير للبلدين كما حصل منذ أيام قليلة بين السفير التركي ورئيس البرلمان التونسي، في تصحيح للمسارات أكثر منه تطبيع للعلاقات.
أما القصر الثاني الذي تحتويه ساحة باردو فهو المتحف الوطني التونسي الذي شهد سنة 2015 عملية إرهابية نفذها إسلاميون، وتتمثل في احتجاز عدد من الزائرين الأجانب وقتل بعضهم.
هذا القصر الثاني لن يضم بالتأكيد، القيادات المحسوبة على الإسلاميين لأن لا آثار حميدة تُذكر قد خلفوها، وإنما سوف يبقى شاهدا على العصر كأول برلمان تونسي في منتصف القرن الـ19 أيام حكم الصادق باي، وكذلك على صداقة الشعبين عبر العديد من الاحتفاليات والاتفاقيات التاريخية التي وقّعها تونسيون وأتراك من جهة، ودول أجنبية من جهة ثانية مثل موكب الأمان عام 1857، وإعلان أول دستور عام 1861.. وصولا إلى عودة دفء العلاقة منذ أيام قليلة.
نقلاً عن العرب اللندنية