كريتر نت – متابعات
في ظل تراجع النظام العالمي القائم على القطبية وعدم استجابته لحاجة الاقتصاديات العالمية، اتجهت الكثير من الدول إلى العلاقات الصغرى الثنائية أو الجماعية المحدودة القائمة على تبادل المصالح، ونجح هذا الأسلوب في تحقيق مكاسب لافتة مع تزايد حاجة مختلف الدول إلى تنويع الشراكات.
وشهد القرن الماضي تحولات ملحوظة في النظام العالمي، ومثّل انتهاء الحرب الباردة بداية عالم أحادي القطب. لكن الألفية الجديدة والتعددية القطبية الناشئة تحوّلا إلى عقبات قوّضت أنهج التعاون. وانبثقت من هذه التحديات شعبية “التعددية الصغرى” التي تنطوي على تعاون مجموعات صغيرة من الدول في معالجة المشاكل أو السعي لتحقيق أهداف مشتركة.
ومن الأمثلة الواضحة على التعددية الصغرى إعلان الإمارات العربية المتحدة والهند وفرنسا مؤخرا عن التزام مشترك بالعمل ضمن إطار ثلاثي في مجالات مختلفة مثل الدفاع والطاقة والتكنولوجيا. كما أقامت أبوظبي شراكات صغيرة مع الهند لإنشاء مركز لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في إثيوبيا ومع إسرائيل لتطوير مرفق للرعاية الصحية في غانا.
وأطلقت الإمارات وإندونيسيا وخمس دول أخرى تحالف القرم من أجل المناخ خلال فعالية خاصة نظمتها وزارة التغير المناخي والبيئة على هامش فعاليات يوم التنوع البيولوجي في مؤتمر “كوب 27” في مصر. ويهدف التحالف إلى تعزيز الحفاظ على النظم البيئية لأشجار القرم وإعادة تأهيلها.
لكن بعض المخاطر تتأتى من التعددية الصغرى، وتشمل احتمال تفاقم اختلال موازين القوى. لكن النهج يتمتع أيضا بإمكانية أن يكون مرنا ومبتكرا على مستوى دبلوماسي، وخاصة في مواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والرعاية الصحية والأمن الغذائي. ويوضح صعود القوى الوسطى ذات التأثير المعتدل على المسرح الدولي والتقدم التكنولوجي السريع أن التعددية الصغرى ستستمر وستصبح أساسية في البلدان التي تسعى إلى معالجة قضايا لا يمكنها مواجهتها دون مساعدة خارجية.
صيغة قديمة
نيكولاي ملادينوف: الأزمة الوبائية كشفت عدم فعالية النظام متعدد الأطراف الحالي في معالجة الأزمات الصحية العالمية
تشكلت الدبلوماسية العالمية خلال جل القرن العشرين من خلال نظام دولي ثنائي القطب، حيث سيطرت القوى العظمى على معظم الموارد السياسية والاقتصادية في العالم. ثم تحول العالم في أوائل التسعينات نحو نظام أحادي القطب تولت فيه الولايات المتحدة دور الزعيم العالمي الوحيد.
لكن نيكولاي ملادينوف، وهو زميل زائر في معهد واشنطن، يقول إن تلك الحقبة انتهت، ونشهد اليوم تحولا آخر في العلاقات الدولية التقليدية. وكشفت الأزمة الوبائية عن نقاط ضعف البشرية وعدم فعالية النظام متعدد الأطراف الحالي في معالجة الأزمات الصحية العالمية. كما أصبح تغير المناخ تحديا ملحّا يهدد بقاء البشرية. وأجبرت هاتان الأزمتان العالم على البحث في كيفية تعاون الدول لمواجهة المشاكل التي لا يمكن التعامل معها بشكل فردي.
ورغم نداءات التعاون المتزايدة، يكافح نظام العلاقات الدولية الحالي تحت وطأة الخصومات الجيوسياسية القديمة والناشئة. وأعاد الغزو الروسي لأوكرانيا على سبيل المثال الحرب البرية المطولة إلى القارة الأوروبية، وهو تطور ظن الكثيرون أنه لن يعود من صفحات التاريخ. كما سيكون للتقسيم التجاري والتكنولوجي الوشيك بين الولايات المتحدة والصين آثار كبيرة على العالم.
ويزيد التطور السريع لقدرات الذكاء الاصطناعي وخطر ندرة الغذاء في أجزاء كثيرة من العالم من تعقيد مزيج المشاكل التي يجب على قادة العالم معالجتها. وتبدو التحديات التي تواجه العالم هائلة وصعبة الحل. ويتواصل انهيار نظم التعاون التقليدية وتشتدّ الحاجة إلى نهج جديد.
ليست التعددية الصغرى مفهوما جديدا. وبرزت في أشكال تعاون من الوفاق الأوروبي في مطلع القرن التاسع عشر إلى الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة) اليوم. لكنها تبرز أكثر في وقت تدخل فيه القوى العالمية الكبرى صراعات كبيرة، مثل الحرب في أوكرانيا والتنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين.
وتكمن أبرز سمات التعددية الصغرى في التركيز على المصالح المشتركة بدلا من القيم أو التوافق الأيديولوجي. ويمكّن هذا الدول من التعاون في القضايا الحرجة دون الحاجة إلى الاتفاق على كل نقطة أو تبني نظرة موحّدة إلى العالم.
ويبرز هذا في التحالف الدولي للطاقة الشمسية الذي تأسس مؤخرا ومقره الهند. وهو تحالف يضم 121 دولة أغلبها من العالم النامي بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة. واجتمعت البلدان بهدف مشترك يتمثل في تعزيز الطاقة الشمسية ومكافحة تغير المناخ. ويبرز هذا كيف يمكن للدول المتنوعة أن تعمل معا لتحقيق هدف مشترك، بغض النظر عن اختلافاتها الأيديولوجية أو الدينية.
تعددية صغرى
اكتسبت التعددية الصغرى شعبية في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، حيث تكافح العديد من البلدان مع تداعيات عقود الصراع وعدم الاستقرار والتدخل الأجنبي. وتسعى دول المنطقة بشكل متزايد إلى تكوين شراكات وائتلافات لمواجهة التحديات المشتركة.
ولم تقتصر اتفاقيات إبراهيم التاريخية المُبرمة سنة 2020 على تطبيع العلاقات بين إسرائيل وثلاث دول عربية، بل فتحت الباب أمام أشكال جديدة من التعاون لم يكن من الممكن تصوّرها في السابق. وأصبح منتدى النقب الناشئ الذي يجمع الولايات المتحدة بإسرائيل والإمارات ومصر والمغرب والبحرين في إطار جديد للتعاون الإقليمي مثالا آخر على التعددية الصغرى.
وتتمتع التعددية الصغرى بمرونة أوسع وقدرة أكبر على التكيف من القنوات الدبلوماسية التقليدية. ففي 2021 أعلنت الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة عن “شراكة من أجل المستقبل” سرعان ما أصبحت تُعرف باسم “مجموعة آي 2 يو 2”. وتهدف هذه المبادرة إلى تحفيز التعاون غير التقليدي. وفي حين استغرق الحوار الأمني الرباعي 15 عاما حتى يجتمع قادته في اليابان سنة 2022، عُقدت أول قمة لمجموعة “آي 2 يو 2” بعد أقل من عام من تشكيلها (وإن كانت قمة افتراضية).
وأكّدت أبوظبي ونيودلهي على الفوائد الاقتصادية الناتجة عن مثل هذا التعاون، مشيرتين إلى أن “الاقتصاد يوفر أفضل طريقة لتحقيق السلام والأمن والتقدم” وأن حشد القوى المشتركة يمكّن من تسريع الأجندات والمساهمة بشكل كبير في الاقتصاد العالمي. كما شددت إسرائيل على أن “التحديات في القرن الحادي والعشرين محلية، لكن الحلول عالمية”، مما يبرر الحاجة إلى مثل هذا التعاون.
ويعتبر ملادينوف، ويشغل منصب المدير العام بالإنابة لأكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية منذ فبراير 2022، أن بناء شبكة من الاتصالات المصغرة يبدو أكثر وضوحا في منطقة الخليج، لكنه يعتقد أن ازدهار دول الخليج يعتمد بشكل كبير على أمن الطرق البحرية وسلاسل التوريد العالمية، مما يجعل إنشاء مثل هذه الروابط في جميع أنحاء العالم أمرا حاسما لضمان أن يكون لكل فرد دور في استقرار المنطقة. وتعتبر التعددية الصغرى بالنسبة إلى دول الخليج ضرورة إستراتيجية ذات آثار كبيرة على أمنها وقدرتها التنافسية وازدهارها.
واستضافت أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي العديد من المناقشات التي تهدف إلى استكشاف شراكات جديدة بين الإمارات وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وإسرائيل. وتركزت على صياغة اتفاقيات حول قضايا مثل الطاقة والبنية التحتية والتجارة والتكنولوجيا، حيث تأمل دول الخليج في بناء شبكة من الشراكات الصغيرة التي يمكن أن تسهم في نموها الاقتصادي واستقرارها مع تعزيز الأمن الإقليمي والعالمي.
يتزايد تشكيل القوى الوسطى للشؤون الدولية، مما ضاعف من جاذبية التعددية الصغرى للعديد من البلدان. وتطرق إليها وزير خارجية الهند سوبراهمانيام جايشانكار في حديثه ضمن إحدى فعاليات أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية قبل بضعة أشهر، واعتبرها شكلا من أشكال الدبلوماسية التي لن تندثر بمرور الوقت، والطريق إلى الأمام بالنسبة إلى الكثير من البلدان.
وتعد التعددية الصغرى أكثر مرونة من الدبلوماسية التقليدية، مما يسمح للبلدان بالاستجابة بشكل أسرع للأزمات أو الفرص دون الوقوع في مستنقع البيروقراطية. وتسمح هذه المرونة للحكومات ببناء علاقات أقوى وأكثر حميمية على أساس المصالح المشتركة، بدلا من إجبارها على العمل في إطار مجموعة أكبر وأقل تماسكا.
وتعد مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تبنتها حكومة بكين في 2013 المثال الأبرز على هذا الاتجاه. وتهدف إلى تأسيس شبكة تجارة عالمية جديدة تمتد عبر آسيا وأوروبا وأفريقيا من خلال الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والتجارة والتبادلات بين مختلف الدول.
عصر القوى المتوسطة
تبرز التعددية كذلك في رؤية “منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة” اليابانية التي تركز على تعزيز النمو الاقتصادي الإقليمي والاستقرار من خلال بناء الجسور مع الدول الأخرى. وقدّمها رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي لأول مرة في 2016، وتهدف إلى ضمان الازدهار والسلام في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وترحب المبادرة بمشاركة جميع الدول التي تتبنى الهدف، ولم تحدد سقفا لعدد الأعضاء.
وتحدّث نارايانابا جاناردان، وهو زميل أبحاث أول في أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية، عن تشكيلات جديدة للتحكم في الموارد الحيوية، وأشار إلى خطة إندونيسيا لبناء هيكل “شبيه بمنظمة أوبك” للتحكم في تجارة النيكل والكوبالت والمنغنيز.
ويقول إن التعددية الصغرى تعاني من عيوب. وتتمثل إحدى المخاطر في أنها قد تصبح إقصائية وتفاقم اختلال موازين القوى، بما قد يمنح الأولوية للمصالح السريعة على الأهداف طويلة الأجل. كما قد يؤدي انتشارها إلى بروز العديد من الاتفاقيات المتضاربة، حيث تشكل مختلف الدول تحالفات قائمة على المصالح الضيقة بدلا من القيم المشتركة.
وقد تزيد هذه التجزئة في النظام الدولي من صعوبة مواجهة التحديات العالمية التي تتطلب استجابة عالمية منسقة، مثل تغير المناخ، والأمن الغذائي، وانتشار الأسلحة النووية. كما قد يضاعف التجزؤ الدولي في النهاية صعوبة تحقيق الدول للأهداف الجماعية وإعاقة جهود المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة لتعزيز السلام والاستقرار.
لكن قوة التعددية الصغرى تكمن في تحديد سبل التعاون المتبادل والمفيد عالميا، بدلا من السعي وراء أجندة أمنية جماعية (وغالبا ما تكون صعبة المنال). ويمكن للقوى الوسطى أن تتخذ نهجا أكثر استباقية وإنصافا لمعالجة القضايا العالمية من خلال التأكيد على المصالح، وتشجيع المزيد من التعاون، والاستفادة من التكنولوجيا الجديدة والابتكار.
وستبقى التعددية الصغرى أداة بناءة للتعاون بين الدول رغم عيوبها المحتملة. ويقول ملادينوف في مقال بموقع سنديكيشن بيورو للرأي إن فوائد التعددية الصغرى تفوق عيوبها. ويبرز صعود القوى المتوسطة والتقدم التكنولوجي السريع أنها النهج الأمثل للعديد من البلدان، بما في ذلك دول الشرق الأوسط.
ويمكن للقوى المتوسطة أن تحدث تأثيرا كبيرا على المسرح العالمي من خلال تجاوز الروتين البيروقراطي الذي غالبا ما يعرقل التقدم بالتركيز على قضايا محددة والعمل بشكل تعاوني. وتبقى فوائد التعددية الصغرى واضحة، وليس انتشارها المستمر سوى علامة على تزايد أهميتها في عالم متغير بسرعة.