كريتر نت – متابعات
كشفت غالبية ردود الفعل الدولية والعربية المعلنة على الصراع الدائر في السودان بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن درجة عالية من التساوي في مستوى التعامل مع كليهما، ما يفقد البرهان افتراضا سياسيا وعسكريا سعى لتثبيته بالإيحاء بأنه يقود مؤسسة أكثر شرعية ويخوض مواجهة ضد متمرّدين وخارجين عن الشرعية.
وبدأت الردود التي حملتها تصريحات ومواقف دول عديدة تزعج البرهان أكثر من حميدتي، حيث يبدو أن الأول على وشك فقدان ورقة كان يعتقد أنها سوف تؤدي إلى حصوله على تأييد إقليمي ودولي واسعين.
وحتى الدول التي قيل إن للبرهان علاقات قوية معها بحكم وجوده على رأس المؤسسة العسكرية لم تعلن انحيازا واضحا له، وعلى العكس جاءت مواقفها متسقة مع جملة المواقف الدولية والأممية المحايدة.
وتعني هذه النتيجة الكثير بالنسبة إلى حميدتي الذي قامت رؤية الجيش على أنه لا يحظى هو وقوات الدعم السريع بشرعية في المؤسسة العسكرية ومن الواجب قتاله. ومن شأن عدم التفاعل الدولي مع هذا التصنيف أن يقود إلى خيبة أمل وقلق كبير لدى قائد الجيش، ما يؤكد أن خصمه يمتلك من الأدوات ما يبعده عن أن يصبح خيارا سودانيا منبوذا.
وظهرت هذه الازدواجية في مجموعة كبيرة من الاتصالات التي جرت الأيام الماضية من جانب مسؤولين كبار في دول مختلفة، وجميعهم حرصوا على تبني فكرة التوازن والتعامل بنفس المسافة بين البرهان وحميدتي، ما يدل على أنه لا أحد تمكّن من هزيمة الآخر بالضربة القاضية، وأن التغيرات السريعة على الأرض ربما لا تمكّن أحدهما من الحسم سريعا.
وإذا كان الجيش يملك تفوقا في المعدات القتالية والطائرات، فإن قوات الدعم السريع تملك من أساليب الكر والفر ما يساعدها على الصمود فترة طويلة، حال تأخر حسمها للحرب عسكريا وسياسيا.
وأكد اتصال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالبرهان وحميدتي الثلاثاء أن الولايات المتحدة تقف على مسافة واحدة بينهما حتى توقيت الاتصال، وما ترتب عليه من نتائج، حيث دعاهما إلى وقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة للسماح للمدنيين بالعودة الآمنة إلى أسرهم وتوفير فرصة لهم لالتقاط الأنفاس.
وكشف موقف قيادة الجيش من إعلان وقف إطلاق النار عن تناقض فاضح، يشير إلى ارتباك داخله وتعدد الجهات التي تتولى صناعة القرار، وهو ما يمثل مشكلة في الأوقات التي تدور فيها معارك ميدانية وتتحرك فيها الجهود السياسية بوتيرة سريعة.
وأصدرت قوات الدعم السريع بيانا عقب مرور وقت قصير على اتصال وزير الخارجية الأميركي مع قائدها، قالت فيه إنها وافقت على هدنة مقترحة بناء على الاتصال المباشر مع بلينكن وجهود الدول الشقيقة والصديقة التي أجرت اتصالات مماثلة دعت إلى وقف مؤقت لإطلاق النار من أجل فتح مسارات آمنة لعبور المدنيين وإخلاء الجرحى، مؤكدة التزامها بالتوجيهات التي صدرت في هذا الصدد.
وبعد أن نفى الجيش علمه بأيّ تنسيق مع الوسطاء والمجتمع الدولي حول إعلان الدعم السريع للهدنة ليوم واحد، عاد مسؤول به وقال إن قائدي طرفي الصراع في السودان اتفقا على وقف إطلاق النار، اعتبارا من مساء الثلاثاء، وذلك عقب نداءات وجهها وزير الخارجية الأميركي إليهما بشأن المعارك المحتدمة في الخرطوم، والتي شهدت حادثة إطلاق نار على موكب دبلوماسي أميركي.
وناقش حميدتي مع أنتوني بلينكن ما وصف بـ”القضايا الملحة”، ومن المقرر إجراء المزيد من المحادثات، بعد أن أصدرت قوات الدعم السريع بيانا قالت فيه إنها تخوض معركة مستمرة لاستعادة “حقوق شعبنا”.
وسمع دوي إطلاق النار في أنحاء الخرطوم لليوم الرابع على التوالي مصحوبا بأصوات طائرات حربية وانفجارات، وأفاد سكان في مدينة أم درمان التي تقع على الجانب الآخر من نهر النيل قبالة الخرطوم بوقوع ضربات جوية هزت المباني وإطلاق نيران مضادة للطائرات، ما يعني أن الهجوم كان قادما من قوات الجيش.
وطالبت فرنسا الثلاثاء الأطراف المتصارعة في السودان بالموافقة الفورية على الهدنة، ووقف القتال وضمان حماية المدنيين، متبعة نفس الموقف الأميركي في التعامل مع البرهان وحميدتي بنفس المستوى.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أجرى مشاورات عاجلة الاثنين بشأن السودان ساوت أيضا بين الطرفين المتصارعين، ولم تشر المناقشات إلى تمييز بينهما بالتأييد أو الإدانة، فالخطاب العام لجميع الدول الأعضاء لم يرشح منه ما يوحي بالتفرقة، وانصبّ إجمالا على ما سيفضي إليه التمادي في التصعيد من نتائج كارثية على السودان.
ويتمتع البرهان ودقلو بعلاقات جيدة مع قوى كبرى من الشرق والغرب، ما يجعل من عملية استصدار بيان يصبّ في صالح طرف دون آخر عملية صعبة.
ويقول مراقبون إن التوازنات الدقيقة التي يقيمها كل طرف تزيد من التعقيدات، لكن علاقات حميدتي تظل أكثر عمقا وأهمية، لأن خطاب الجيش الذي وصفه بـ”التمرد” عليه لم تكن له أصداء لدى أيّ من القوى الإقليمية والدولية، بل يدعم التعامل معه بعد ذلك موقفه ويشكك في مواقف البرهان التي يضفي عليها قدرا من الصرامة العسكرية.
كما أن تبني حميدتي لخطاب داعم للتحول الديمقراطي وتسليم العسكريين السلطة إلى المدنيين يعزز مكانته مع بعض الدول الغربية التي سئمت من البرهان بسبب مراوغاته ورغبته في هيمنة الجيش على الحكم.
ولم يمنع ما تردد حول امتلاك قائد الدعم السريع مصالح قوية مع روسيا من تعامل قوى غربية معه، في مقدمتها الولايات المتحدة، والتي ملّت في مرحلة سابقة من شيطنة البرهان للقوى المدنية، بينما تمكن حميدتي من ضبط موقفه وأصبح منحازا لها ضد الجيش الذي تيقنت جهات متابعة للموقف عن كثب من أنه طامع في السلطة.
ومن المتوقع ألاّ يفضي استمرار اجتماعات مجلس الأمن حول السودان إلى صدور قرار حاسم في ظل التوازنات الدقيقة بين المتصارعين، وسيكون الخيار المتاح استصدار قرار توافقي يتعامل مع الطرفين بنفس المستوى، أما إذا تغيرت الأوضاع وظهرت تحولات درامية في القتال وقتها يمكن الحديث عن سيناريو جديد يقود إلى انقسام دولي، يرجّح فيه أن تتخلى بعض القوى الكبرى عن مواقفها الراهنة.