كريتر نت – متابعات
اكشف الصراع العسكري بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عن فصول عديدة، بعضها كانت تجلياتها واضحة، والأخرى خفية، لكن الهوة بين قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه في المجلس وقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” اتسعت مؤخرا، بحيث أصبح التفاهم بينهما حول الملفات السياسية والعسكرية صعبا، وما يزيد المعركة صعوبة ما يكتنفها من توازن في الكثير من المناحي التي يمكنها أن تقول كلمتها الحاسمة.
مهما كانت الزاوية التي ينظر من خلالها المراقب أو المتابع إلى ما يجري في السودان، فقد يصاب بالحيرة وربما الدوار في تقدير الموقف النهائي من الرجلين وأهداف كليهما، لكن تظل النظرة الإيجابية والمتفائلة منتشرة لدى قوى مدنية عديدة لقائد الدعم السريع، فرغم اللغط الذي يحيط بسيرته الأولى عندما وضع الدعائم الأولى لقوات الدعم السريع في دارفور، سيبقى من العسكريين القلائل الذين أيدوا علنا تسليم السلطة إلى المدنيين.
وقد يدرج حميدتي كثاني عسكري ينطق بذلك صراحة وبلا مواربة عقب الموقف التاريخي الشهير للفريق الراحل عبدالرحمن سوار الذهب عام 1984، والذي قاد انقلابا عسكريا على الرئيس الأسبق جعفر نميري وأبى أن يمكث في السلطة أكثر من الفترة الانتقالية المحددة، وبات من الشخصيات النادرة في السودان والمنطقة العربية ذائعة الصيت، والتي قبلت التنازل طواعية عن الحكم وزهدت فيه.
مع الفارق في التشبيه بين سوار الذهب في الثمانينات من القرن الماضي وبين حميدتي في العشرية الثالثة من الألفية الثانية والأهداف التي دفعت كلاهما إلى ضرورة أن يكون الحكم مدنيا في البلاد، غير أن المقارنة واجبة في هذه المسألة التي يصعب حدوثها في السودان.
مع أو ضد الحكم المدني
من المؤكد أن الصراع العسكري بين البرهان وحميدتي سينتهي قريبا، لكن سوف يظل عالقا في قطاع كبير من السودانيين وذاكرتهم الجمعية، من كان مع ومن ضد القوى المدنية، والتي سئمت نهم العسكريين في السلطة، وتبدو مستعدة لدفع حياتها مقابل رؤية رئيس مدني يحكم بلا تفويض صريح أو مبطن من الجيش.
هذه النقطة وفرت لقائد الدعم السريع تعاطفا أيضا من قبل قوى إقليمية ودولية، رأت أن استمرار البرهان على رأس السلطة حاليا أو مستقبلا لن يوفر للسودان الاستقرار والأمن والهدوء المطلوب، ومن هنا ظهرت خطوط تواصل ساخنة مع حميدتي، والذي وجد في دعم القوى المدنية سبيلا لتعزيز شعبيته في الوجدان السوداني العام وإنهاء اللغط حول مسألة الشرعية التي تتم إثارتها من حين إلى آخر، كذلك يسهم هذا المدخل في كسب المزيد من النقاط والتفوق على غريمه الجنرال البرهان في صراعهما الممتد.
نسي الفريق المكون من الأحزاب السياسية والفريق الثاني المكون من الحركات المسلحة انتقاداتهم السابقة لقوات الدعم السريع وما تردد بشأن تدخلات أمنية سافرة لها وسط احتدام المعارك في دارفور أو بعض المدن، وتذكر الأول أن حميدتي أضحى إحدى أهم الدعائم في إزاحة الجيش عن السلطة ورمانة الميزان في المفاوضات التي تجري مع البرهان وتشهد تعثرات عديدة.
وتذكر الفريق الثاني أنه هو من تفاوض مع الحركات المسلحة المتباينة لوضع حد للصراعات الأهلية في عدد من أقاليم السودان، وسهل الكثير من العراقيل للتوقيع على اتفاقية جوبا للسلام، والتي كان من نتائجها الترتيب لإدماج قواتها في الجيش.
تحولت عملية الدمج إلى أزمة عميقة في السودان، وهي التي جعلت الصراع بين البرهان وحميدتي يخرج إلى السطح سريعا، حيث يرى الأول ضرورة في أن تكون مدة الدمج خلال عامين، بينما رآها الثاني تحتاج إلى عشرين عاما، وانتهى الاتفاق الإطاري الموقع بين المكونين العسكري والمدني لتكون مدتها نحو عشر سنوات، وبقيت تفاصيل تطبيقه التي سعى البرهان لعرقلتها، بينما عمل حميدتي على تذليلها.
لدى شريحة من السودانيين وقادة الحركات المسلحة والقوات شبه النظامية أو النظامية التي لا تخضع مباشرة لسيطرة المؤسسة العسكرية، حساسية في التعامل مع عمليات الدمج، فالخبرات السابقة مع جيش الجبهة الشعبية لتحرير السودان خلال عهد الراحل العقيد جون قرنق خلفت نتائج سلبية، ما يجعل التمهل مطلوبا، فالدمج يحتاج خطوات فنية متأنية لتجنب حدوث خلل في التفاهمات يقود إلى مشكلات تصعب المهمة.
تحفل قصة صعود حميدتي العسكرية والسياسية بالكثير من الحكايات التي تتداخل فيها الروايات الحقيقية بالخيال، ولا يوجد اتفاق عام إيجابي أو سلبي حول الرجل، وهناك انقسام، فالبعض يراه منقذا للسودان الجديد وأول من يعمل على طي صفحة الحكم العسكري بجدية، والبعض الآخر يبدي انزعاجا من طموحه السياسي الكبير، وتشعب علاقاته الداخلية والخارجية.
الصعود من دارفور
صعد الفريق أول حميدتي من بدايات هامشية ليصبح زعيما لجماعة الجنجويد المسلحة التي أسهمت في سحق متمردين في إقليم دارفور، واكتسب الرجل نفوذا واسعا، ومنح رتبة عسكرية رفيعة وأضفى طابعا رسميا على هذه القوات وصدرت لها قوانين خاصة أدرجتها ضمن المؤسسة العسكرية النظامية عام 2013، لكنها ظلت محتفظة لنفسها بمساحة كبيرة من الاستقلالية لاعتبارات تتعلق بحسابات البشير في إحداث التوازن، وضمان عدم حدوث إنقلاب عسكري عليه.
استمد الرجل الكثير من نفوذه العسكري والسياسي من تبعية قوات الدعم السريع له مباشرة وتشكيلها من وحدات لها خبرة قتالية عالية، حيث أتقنت عناصرها خبرة حروب الصحراء في منطقة دارفور، لكن يؤاخذ البعض من خصومهم عليهم أنهم يفتقرون إلى انضباط الجيوش النظامية أحيانا، وهو ما حاول قائدها القيام به الأعوام الماضية.
◙ قصة صعود حميدتي العسكرية والسياسية تحفل بالكثير من الحكايات التي يختلط فيها الحقيقي بالخيالي. ولا يوجد إجماع – إيجابيا كان أم سلبيا- على الرجل
حمل قائد الدعم السريع السلاح لأول مرة في منطقة غرب دارفور بعد أن قتل رجال هاجموا قافلته التجارية نحو 60 شخصا من عائلته ونهبوا الجمال. انتشر الصراع في دارفور منذ عام 2003 بعد أن ثار متمردون معظمهم ينحدرون من قبائل أفريقية ضد الحكومة السودانية، التي اتهمت من جانبهم بقيامها بانتهاكات جسيمة في الإقليم الواقع في غرب البلاد.
شكل حميدتي الرجل طويل القامة ذو الشخصية المهيبة، ميليشيات موالية للحكومة من رجال قبائل عربية، عرفوا محليا باسم “جنجويد”، قبل أن تتحول إلى قوات الدعم السريع الأكثر تنوعا.
اتهمت المحكمة الجنائية الدولية البشير ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في دارفور بدأت في عام 2003. وأدى الصراع إلى مقتل نحو 300 ألف شخص وتشريد 2.7 مليون، ولم توجه أي تهم إلى حميدتي.
عندما أراد البشير أن يحتمي من خصومه خلال فترة حكمه التي استمرت 30 عاما، اختار حميدتي لهذا الدور، ومع الإعجاب بدهائه ومهاراته القتالية، اعتمد البشير عليه في التعامل مع المتمردين على الحكومة في صراع دارفور وفي أماكن أخرى بالدولة.
وكان لحميدتي مطلق الحرية في السيطرة على مناجم الذهب في دارفور وبيع المورد الأكثر قيمة في السودان، وهو ما يؤاخذه عليه خصومه، حيث اتهموه بأنه حقق ثراء فاحشا من وراء هذه التجارة، غير أنه في مقابلة سابقة مع بي.بي.سي، قال “إنه ليس أول شخص يمتلك مناجم ذهب، ولا يوجد ما يمنع من العمل في الذهب”.
الميدان هو الفيصل
◙ حميدتي يبدي الكثير من التسامح مع الأحزاب وقوى المعارضة المدنية ويتفهم مطالبها بالعودة إلى تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات واسعة
أقام الرجل صداقات قوية مع السعودية والإمارات وأرسل قوات الدعم السريع لدعم التحالف العربي بقيادة الرياض ضد الحوثيين المتحالفين مع إيران في الحرب اليمنية.
وبعد دعمه للرئيس السابق عمر البشير، شارك حميدتي في الثورة الشعبية عليه في ديسمبر عام 2019، وانحاز لموقف الشارع، وأسهم بدور معتبر في نجاح الثورة بالتنسيق مع الفريق أول عبدالفتاح البرهان، والذي لم يجد أمامه خيارا سوى القبول بسقوط البشير.
بات الرجل الثاني في الدولة بعد اندلاع الثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير، وشغل منصب نائب رئيس مجلس السيادة المسؤول عن إدارة المرحلة الانتقالية إلى حين إجراء انتخابات تسليم السلطة إلى حكومة مدنية.
في إطار شراكة مدنية – عسكرية بعد عزل البشير، لم يهدر الجنرال حميدتي وقتا في محاولة رسم مستقبل السودان الذي حكمه قادة عسكريون استولوا على السلطة في معظم تاريخه بعد الاستعمار، وبدت مواقفه متقدمة عن رفاقه من العسكريين مثل البرهان، في مسألة ضرورة عودة الجيش إلى الثكنات وتسليم السلطة للقوى المدنية.
◙ الرجل أقام صداقات قوية مع السعودية والإمارات وأرسل قوات الدعم السريع لدعم التحالف العربي بقيادة الرياض ضد الحوثيين المتحالفين مع إيران في الحرب اليمنية
تحدث قائد الدعم السريع علنا عن الحاجة إلى “ديمقراطية حقيقية” والتقى بعدد كبير من السفراء الغربيين وأجرى محادثات مع الحركات المسلحة، وأسهم انفتاحه على قوى داخلية وخارجية عديدة وإصراره على الاحتفاظ بمسافة عن مواقف البرهان المتعنتة في عملية تسليم السلطة للمدنيين، في توسيع نفوذه والوثوق به كإحدى الضمانات المهمة لوقف مسلسل الانقلابات العسكرية عقب اعترافه مؤخرا بالتراجع عن خطوة تأييده للانقلاب الذي قام به البرهان في أكتوبر 2021، والذي أدى إلى الإطاحة بحكومة أول رئيس حكومة بعد سقوط البشير، وهو عبدالله حمدوك.
بدأ قائد الدعم السريع يبدي الكثير من التسامح مع الأحزاب وقوى المعارضة المدنية، ويتفهم الكثير من مطالبها بالعودة إلى تشكيل حكومة مدنية بصلاحيات واسعة، وتكون لها يد طولى في السلطة، مع تقليص دور المؤسسة العسكرية في الحياة الاقتصادية.
وساعدت مواقف حميدتي المعلنة المؤيدة للقوى المدنية وتقويض صلاحيات الجيش في السلطة على تراجع اتهامات قالت إن قوات الدعم السريع شنت حملة على تجمع
احتجاجي عام 2019 أمام وزارة الدفاع بعد الإطاحة بنظام البشير، أودت بحياة ما يزيد على مئة شخص، لكن حميدتي نفى قيامه بإصدار أوامر بالاعتداء على المحتجين.
تكشف هذه المسيرة الكثير من المصاعب التي واجهته ويمكن أن يتعرض لها الفترة المقبلة، لكن يظل التفوق في الميدان هو الذي سوف يرسم دوره مستقبلا، فانتصاره سريعا في الصراع العسكري مع البرهان يضمن له مقعدا وثيرا في السودان، فوقتها سوف يحسب له أنه أخرج السودان من دوامة الجيش الانقلابية.
المصدر العرب اللندنية