توفيق الجند
في ثلوج موسكو، دُفنت شعلة التنوير اليمنية. هناك يرقد أبو بكر السقاف، أبرز منظري الحريات وحقوق الإنسان والدولة المدنية في اليمن، الذي وافته المنية في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2022، عن عمر يناهز 88 عاما. غادر السقاف أرض اليمن مع زوجته الروسية (لينا) في أبريل/نيسان 2015 على متن طائرة إجلاء روسية، تاركا وراءه مسيرة امتدت لأربعة عقود كأستاذ للفلسفة في جامعة صنعاء. وعلى خلفية مواقفه المنتقدة لسياسات الحكومة، تعرّض السقاف للاختطاف والاعتداء أكثر من مرة في عهد نظام علي عبد الله صالح.
وُلد السقاف في اثيوبيا عام 1935 لأب يمني وأم أثيوبية. عاد إلى مسقط رأس والده بمنطقة الوهط محافظة لحج جنوبيّ اليمن وهو في سن العاشرة، حيث التحق بالمدرسة الجعفرية بالوهط، ثم المدرسة المحسنية بالحوطة. في عام 1954 ، رشحه نادي الشباب اللحجي ضمن بعثة تعليمية إلى القاهرة، ليُنتخب عام 1956 سكرتيرا أولا للمؤتمر العام للطلاب اليمنيين بمصر، وهو أول كيان يمني مُوحد نادى بوحدة شطري اليمن في بياناته الرسمية. أُبتُعث السقاف في عام 1959 إلى موسكو ليواصل دراسته للفلسفة حتى نال درجة الدكتوراه من جامعة موسكو ، قبل أن يعود الى اليمن في عام 1974 للتدريس في جامعة صنعاء.
رغم كونه الجنوبي الذي عاش وعمل في صنعاء قبل تحقيق الوحدة التي نادى بها منذ 1956، انتقد السقاف بشدة طريقة توحيد الشطرين في مايو/ أيار 1990. فقد كان قارئاً ثاقباً للمعطيات ومؤمناً بأن النتائج صنيعة الأفعال لا الأقوال، وفي خضم الحرب التي اندلعت بين قطبي الوحدة في عام 1994 (والتي أثبتت مخاوفه من مصير الوحدة الاندماجية)، ظل السقاف في صنعاء ومنها أعلن حربه على نظام علي عبدالله صالح وسياساته المتبعة في الجنوب، بعد انتصار صالح على شريكه الجنوبي في الوحدة.
من صنعاء، كتب السقاف باستمرار في صحف يمنية كالأيام والتجمع والشورى، متحدثا متى أتيحت له الفرصة واصفا دوما سيطرة سلطة صنعاء على الجنوب بـ”الاحتلال الداخلي”، ومدافعا صراحة عن القضية الجنوبية والحزب الاشتراكي اليمني رغم رفض سياسته أيضا. وهو السبب الذي دفعه لرفض منصب وزير التربية والتعليم في الحكومة الشطرية لعلي سالم البيض عام 1994 والتي ولدت ميتة في نظر السقاف.
يمكن القول إن السقاف شكل معارضة موازية من خارج الأحزاب – وإن كان يساري الفكر – وأظهر شجاعة لم يمتلكها أي قيادي حزبي معارض. فقد كان يؤصل للممارسات السلطوية ويحللها ويتوقع تداعياتها برؤية استباقية لا يملكها غيره. دفع ثمن مواقفه وانتقاداته الصريحة، حيث تم توقيفه عن العمل في عهد إبراهيم الحمدي وفي عهد صالح، إلا أن التوقيف عن العمل كان من أبسط الخسائر أمام ما عاناه من قمع وقسوة على أيدي السلطات طوال سنوات إقامته في صنعاء لأنه لم يكن قابلا للاستيعاب أو الإغراء.
كمعارض عابر للأنظمة، استمر هدفا للأجهزة الأمنية التابعة لنظام صالح (منذ مطلع عهده) حيث أعتُقل وعُذب بقسوة عام 1978.[1] وبعد عقدين على تلك الواقعة، وفي نفس المدينة (صنعاء)، تعرض السقاف للاختطاف ولنفس الشكل من التعذيب وإن كان خارج المعتقل. يقول صديقه الكاتب قادري أحمد حيدر الذي زاره بعد حادثة الاختطاف “تعمدت الكشف عن آثار التعذيب التي على ظهره، فهالنا المنظر، ولم يكن مرحِّبًا بمبادرتي في الكشف عن آثار التعذيب الكهربائي الذي غطّى كلّ جسده من الرقبة حتى أسفل ظهره، بالبقع الدموية …”[2]. كان يتحدث وكأنّه لم يتعرّض لأيّ تعذيب لأنه لم يرضَ باستجداء العطف.
بعد هذا وقبله، استمرت كتاباته المنتقدة للنظام بنفس اللغة والنهج، كداعية متفرد و بدأب منقطع للدولة المدنية. إذ انتقد محاولة فرض نظام دولة برؤية دينية، قائلا “طالما سلمنا بالدين معيارا للمواطنة فإن الوحدة القومية وخلق المتحد القومي للأمة يبدو مستحيلا”[3] ، أو فرضها بالقوة العسكرية كما قال في مادة منشورة له عام 2007 “الدولة العسكرية هي الجرثومة القاتلة للسياسة التي لا تكون إلا مدنية، لأن الاستبداد نقيض السياسة وضد عليها.”[4]
وإدراكاً منه بأن الذهاب إلى شخصية تحت دائرة ضوء ومحور غضب السلطة أمر محفوف بالخطر، كان هو من يذهب إلى الناس. ففي أية ندوة فكرية أو فعالية تناصر الحريات والحقوق العامة، كان السقاف الوجه الحاضر دائما في مقدمة الصفوف، ولا يعيقه ذلك الالتزام عن مراكمة معرفته ومتابعته الدقيقة للأحداث. فـ طريقته في الكتابة حول فكرة معينة أو عن أوجه الظلم لا تكتفي بالسياق الوطني، بل كان يطوف اليمن والعالم عبر الأزمنة لتعزيز حجته بالوقائع المؤيدة لها بشكل يعكس ثقافة موسوعية مدهشة.
رغم كونه أحد أكثر المفكرين نباغة في اليمن ، وفلسفته المتعمقة في تناول أوجه الاضطهاد وتآكل الحقوق المدنية وشؤون الدولة من منظور تاريخي، لم يكن إنتاجه من المؤلفات كثيراً. فقد تمت مداهمة منزله ومصادرة خمس مسودات من كتبه التي لا تزال مجهولة المصير منذ منتصف التسعينات، وبالتالي لم يُنشر له إلا كتابين هما: دراسات فكرية وأدبية (1977)، و الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي (1988). نُشر الأخير – الذي تناول فيه بنية النظام بالنقد والتحليل بجرأة لا تليق إلا به – تحت اسم مستعار “محمد عبدالسلام” ، وأعيد نشره باسمه الحقيقي في عام 2021. يُذكر أنه في عام 2011، جمع الصحفي والكاتب اليمني “منصور هائل” مجموعة من كتابات السقاف في كتاب بعنوان (دفاعا عن الحرية والإنسان)، وهو عنوان يختزل مسيرة حياته. وحاليا، يقوم مجموعة من محبيه بتجميع باقي كتاباته في كتاب آخر قيد الإعداد، حسب تواصل كاتب هذه المقالة مع الصحفي والشاعر اليمني محمد عبدالوهاب الشيباني.
نقلا عن موقع أنباء عدن