كريتر نت – متابعات
أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريحات فور عودته من رحلته الأخيرة إلى الصين. وأثار بذلك حفيظة عدد من الأطراف على جانبي المحيط الأطلسي. ومن أبرز ما قال إن على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة وتجنب الانجرار إلى أزمات لا تخصها. ودفعت هذه المقولة التي يُفترض أنها تشير إلى تايوان بعض المراقبين إلى اتهام الرئيس الفرنسي بتقويض الجبهة عبر الأطلسية ضد الصين، على الرغم من أنه استمر في التأكيد على دعم فرنسا للوضع الراهن في تايوان.
وأثار ماكرون الجدل أكثر حين قال إن الأوروبيين لا يستطيعون “حل الأزمة في أوكرانيا. كيف يمكننا أن نقول بشأن تايوان، ‘احترسوا، إذا فعلتم شيئا خاطئا، فسنكون هناك’؟ إذا كنتم تريدون حقا زيادة التوترات فهذه طريقة القيام بذلك”.
بنيامين حداد: القادة الأميركيون غير مستعدين لسماع الحقيقة غير المريحة
ولم تكن هذه التصريحات مفاجئة، حيث لاحظ ماكرون ضمن دعوته الأوسع المستمرة لـ”الحكم الذاتي الاستراتيجي” ببساطة أن أوروبا لن تتمتع بالمصداقية في آسيا ما لم تتمكن من التعامل مع القضايا الأمنية في ساحتها الخلفية، خاصة مع طلب الرؤساء الأميركيين المتعاقبين (الجمهوريين والديمقراطيين) من القادة الأوروبيين تولي مسؤولية أمنهم.
ويقول المحلل بنيامين حداد في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية “قد يقلق المعلقون من تعليقات ماكرون الحادة والصريحة، لكنها تكشف الدوافع الأعمق لرحلته إلى الصين، حيث من الواضح أنه يرى أن على الاتحاد الأوروبي أن يجد صوته في الشؤون العالمية وألا يدع الآخرين يشكلون مصالحه ونظرته للعالم، سواء كان الطرف المعني واشنطن أو بكين. وقد لا يكون صانعو السياسة في الولايات المتحدة مستعدين لسماع الحقيقة غير المريحة التي لم يخفها ماكرون ويتبناها العديد من الشركاء الأوروبيين بهدوء”.
ويشعر القادة الأوروبيون خلف الأبواب المغلقة بالقلق من الانجرار مع واشنطن في صراع مفتوح مع الصين. ويهتم الأوروبيون بالعديد من جوانب السلوك الصيني، من الممارسات التجارية غير العادلة إلى انتهاكات حقوق الإنسان. حتى إن المفوضية الأوروبية كانت على استعداد لمواجهة بعض هذه القضايا ووصفت الصين بأنها “منافس منهجي يروج لنماذج بديلة للحكم” في 2019، وهو مصطلح تبنته باريس. لكن العديد من الأوروبيين لا يريدون سلوك نهج المواجهة الذي يرونه أحيانا مرتبطا بمخاوف الولايات المتحدة من خسارة تفوقها العالمي أكثر من صنع السياسات السليمة.
لكن هذه حقيقة يجب على الولايات المتحدة قبولها لأنها تعمل مع أوروبا لبناء نهج مشترك للتعامل مع الصين. وسيكون النجاح في مواجهة بكين متعلقا بصياغة إستراتيجية اقتصادية موحدة بقدر ما يتعلق بتنظيم الجانب العسكري. ويجب على الولايات المتحدة في هذا الإطار أن تراعي مخاوف نظرائها الأوروبيين ومصالحهم إذا كانت تريد نجاح نهجها، حيث يمثلون إحدى أكبر التكتلات التجارية في العالم.
قرر القادة في جميع أنحاء القارة الأوروبية معايرة نهجهم تجاه بكين بدقة أكبر، ويتضح أنهم يسيرون على حبل مشدود في محاولة لتحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والأولويات الأخرى.
وليس ماكرون وحده هنا، ولم تكن زيارته للصين برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حدثا منعزلا. وسافر المستشار الألماني أولاف شولتز إلى الصين قبل بضعة أشهر، وتبعه رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بأسابيع. كما تنوي رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني زيارة بكين في مايو. ولا يزال أشد مؤيدي الانحياز إلى الولايات المتحدة في وسط أوروبا وشرقها جزءا من منتدى 14+1 مع بكين.
ولم يغير دعم الصين لحرب روسيا في أوكرانيا ذلك. وقبل أسبوعين فقط على بدء الحرب، وبعد أيام قليلة على تأكيد الصين على “صداقتها اللامحدودة” مع روسيا، زار الرئيس البولندي أندريه دودا الصين خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022، على الرغم من مقاطعة دول أخرى في التكتل. وتتعدد هذه الاتجاهات الدبلوماسية في قطاعات كثيرة، ومن الأفضل لواشنطن أن تواجه الحقيقة في أسرع وقت ممكن.
وبينما تجدر الإشادة بإدارة جو بايدن على تشكيلها وحدة قوية عبر المحيط الأطلسي في دعم أوكرانيا ضد العدوان الروسي، إلا أنه من المهم ألا يتجاهل المحللون فشلها في تحقيق نفس الانجازات في ما يتعلق بالصين. ولم تتوصل مبادرة الرئيس الأميركي عبر الأطلسية (مجلس التجارة والتكنولوجيا) إلى توافق بشأن المعايير الرقمية وسلاسل التوريد، بل ضاعفت حمائية عهد ترامب. ولا يزال الجدل قائما بين المفاوضين عبر الأطلسي حول التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على الصلب، حتى في الوقت الذي يوفر فيه قانون خفض التضخم الذي أقره الكونغرس في أغسطس 2022 إعانات ضخمة للصناعة الأميركية على حساب الشركاء الأوروبيين.
هل انتهى عصر الوصاية الأميركية
كما يشك العديد من القادة الأوروبيين في صدق محاوريهم الأميركيين عندما تضع واشنطن معيارا مزدوجا لسلوكها.
ويرى المحلل بنيامين حداد، وهو عضو في البرلمان الفرنسي، أن رغم التوترات المستمرة، ليس هناك ما يدعو إلى اليأس في واشنطن، لأن أوروبا الأكثر استقلالية لن تفيد سوى دفع الولايات المتحدة ضد الصين على المدى الطويل. وستحتاج واشنطن إلى شريك موثوق به للتنافس مع بكين، وليس مجموعة من العملاء المتحالفين.
وتتوفر طريقة أخرى للرد بشكل أكثر فعالية ضد الطموحات الصينية دون إقناع الأوروبيين ببقاء نقاط الحوار الأميركية، حيث يمكن للولايات المتحدة أن تقلل من خطر تعرض الاتحاد الأوروبي للتأثر بالنفوذ الصيني الخارجي من خلال السماح للتكتل ببناء سيادته. وهذا بالضبط ما كانت باريس تدفع من أجله.
كان طموح ماكرون على مدى السنوات الست الماضية هو تعزيز الاستقلال الذاتي الأوروبي، وحماية البنية التحتية الحيوية وسلاسل التوريد، وتطوير الآليات الجيوسياسية اللازمة للقارة للتنافس والدفاع عن مصالحها وأمنها.
بدأ الاتحاد الأوروبي في الأشهر العديدة الماضية بالفعل في تحقيق هذا الهدف عبر عدة مجالات. واتفق على آليات لحماية أعضائه من ضغوط التجارة المفترسة كرد فعل على محاولات الصين لعزل ليتوانيا بسبب التحدث باسم تايوان. وقد لا يتصدر قانون رقائق الاتحاد الأوروبي، وقانون صناعة صافي الصفر، وقانون المواد الخام الحيوية عناوين الأخبار، لكنها خطوات مهمة لجعل الأوروبيين أقل اعتمادا على الصين في صناعة البطاريات والمواد الخام والهيدروجين والمكونات الإلكترونية للتقنيات الرئيسية. وكانت باريس في طليعة هذه الجهود وبين أكثر الدول تقييدا على هواوي وحظر موظفي الخدمة المدنية من تنزيل تطبيق تيكتوك.
وكما قالت فون دير لاين سابقا، لا يكمن الهدف في الفصل تماما، ولكن “إزالة مخاطر” الصناعات الأوروبية من الاعتماد على الصين. وجرّب القادة في بروكسل وعواصم الاتحاد الأوروبي أن يكونوا مقيدين بالصين للحصول على الأدوية خلال جائحة كوفيد – 19، ورأوا كيف استطاعت روسيا استغلال الروابط الطاقية لتحقيق النفوذ السياسي.
توافق يدعو إلى بناء علاقات مثينة
وبدأت أوروبا الأكثر استقلالية ببطء في الاستيقاظ من عطلتها من التاريخ في الجوانب العسكرية أيضا. ويتعزز الإنفاق الدفاعي اليوم في جميع أنحاء القارة. ورفعت فرنسا بالفعل من ميزانيتها الدفاعية بنسبة 25 في المئة منذ أن انطلقت الفترة الرئاسية الأولى لماكرون في 2017. وتدرس الآن مشروع قانون سيواصل هذا الاتجاه. وأعلنت ألمانيا ودول الشمال وبولندا عن زيادات مماثلة.
كما عاد الأوروبيون أخيرا للانخراط مع جيرانهم الذين تركوهم لفترة طويلة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني، مع تركيز متجدد على التوسع والتكامل الإقليمي في غرب البلقان وأوروبا الشرقية. يعد إطلاق المجموعة السياسية الأوروبية بقيادة فرنسا، بعد سنة على فوز الصين على الاتحاد الأوروبي في توزيع اللقاحات على دول غرب البلقان، بداية واعدة لتطوير التعاون والبنية التحتية في مجموعة من القضايا المهمة.
ويجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة البحث عن الأماكن التي تتوافق فيها مصالح كلا الجانبين بشكل ملموس. وتكمن القوة الرئيسية لأوروبا في الحاضر في الاستفادة من قوتها التجارية. ويجب على الولايات المتحدة ألا تقوض هذا بالحمائية، أو بمعارضة ظهور صناعة دفاعية أوروبية.
وطالما كان ماكرون واضحا في أن الأوروبيين ليسوا على “مسافة متساوية” بين حلفائهم في الولايات المتحدة والصين. وتعتبر أوروبا الموحدة التي تدافع عن مصالحها ورؤيتها للعالم في النهاية شريكا أقوى لواشنطن على المدى الطويل من حلفاء يتبعون إستراتيجيات وطنية منعزلة. وقد لا يبدو الاتحاد الأوروبي الذي يتمتع بالسلطات والاستقلال مغريا للولايات المتحدة في الوقت الحالي، لكن على واشنطن أن تضع في اعتبارها أنه سيكون اتحادا لا يمكن أن تقسمه الصين وتتحكم فيه.