موسى برهومة
كاتب أردني
يلاحظ المراقب للسجالات الضارية، على مواقع التواصل الاجتماعي، انسحاب المثقفين والمشتغلين في الفكر والنشاط السياسي، عن الخوض في هذا المعترك، ربما ترفعاً أو خوفاً أو نشداناً للسلامة، وهي خيارات تعبّر، في المجمل، عن سلوك ملتبس، يغلب عليه النأي بالنفس، وشراء هدوء البال، ربما!
بيْد أنّ خطورة هذا التصرف الانسحابي تكمن في إخلاء الفضاء العام من الأصوات المؤثرة، والمواقف الوازنة، والآراء التي تحمل من رصيد أصحابها الكثير، مما يجعلها أبعد صدى وأعمق أثراً، في حين نجد، على الضفة الأخرى من المشهد، حضوراً واضحاً من أصحاب الفكرة النقيضة الذي يؤيدونها ويسوّقونها وينشغلون بها، كجزء من مشروع يجد أثره الواضح وتجليه الأبرز الآن عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
*كثير من المثقفين ذوو حسابات فاعلة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها مستثمرة بطريقة تعكس نرجسية متضخّمة*
واستطراداً، فإنّ أغلب أصحاب هذه المشاريع ينطلقون من أنّ المشاركة في إبداء الرأي و”مناطحة” المواقف المناهضة لهم، يصبّ في إطار عمل الخير ودرء المنكر، و”الجهاد الإلكتروني” وبالتالي فإنّ الإسهام في هذا المجهود الجهادي يكافأ بحسنات وجزاء طيب في الدنيا والآخرة، وهذه تشكل ركناً مركزياً في خطاب جماعات الإسلام السياسي على وجه التحديد.
واللافت؛ أنّ بعض المعارك التي كسبها أنصار هذا التيار، كانت ساحتها مواقع التواصل الاجتماعي، التي أضحت تشكل الوعي الجماعي للبشر، لا سيما وأنّ غالبية أفراد المجتمع العربي، مساهمون في هذا المواقع بحساب أو أكثر، ومتصلون باستمرار بشبكة الإنترنت، ومنخرطون في عوالم افتراضية صارت مع الوقت أكثر واقعية مما كنا نحتسب؛ لأنّ مخرجات هذا الحراك التواصلي تحولت إلى قرارات سياسية ضاغطة، بعد أن اضطرت سائر الحكومات العربية إلى الإصغاء العميق لما ينتجه هذا الفضاء ومشاركوه الذين يناهز عددهم عدد سكان العالم العربي، وربما يزيد إذا ما أخذنا في الاعتبار عدد الحسابات الوهمية التي قد يحوزها شخص واحد في الوقت نفسه، مستخدماً إياها في عملية نمذجة الوعي وتكييفه بحسب المقتضى السياسي أو التعبوي أو الأيديولوجي.
وبلا ريب أنّ هذا الصراع يدركه المثقفون العرب أو ممن ينتسبون إلى “مجتمع النخبة” لكنّ عدداً قليلاً منهم يشارك في السجالات، ويؤثر فيها، ويدافع عن القضايا الملحة التي يسطرها الواحد منهم في كتبه وأبحاثه، ويسكت عنها في مواقع التواصل، لا لقلة مهارة، وإنما نشداناً لـ”التقية” وصيانة الصورة المصطنعة من الشرخ أو التعرّض لإكراهات الرأي والرأي الآخر، أو الابتعاد عن يكون في مواجهة تيار هوائي عاصف يلفح وجهه أو جبينه.
*من الضروري خلق تيار تعدّدي يقدّس حق الاختلاف، ويحول دون تنمّر تيار أو هيئة أو حزب على المجتمع*
سيقول قائل: إنّ المثقف الحقيقي أو “العضوي” مشغول بمشروعه الإبداعي، ولا يريد لهذا السأم الذي تجلبه مواقع التواصل الاجتماعي أن يكدّر صفو قريحته، وهذا أمر لا نغمطه حقه من الوجاهة أحياناً، ولكنّ الإسهام، لبعض الوقت، في الدفاع عن قضايا مصيرية تمثل الحريات العامة عصبَها، يستأهل أن يعفّر المثقف العضوي يديه بالغبار أحياناً، فإبداعه الذي ينكبّ عليه، ليس له من مجال حيوي إذا انقطع خيط التواصل مع الفاعلين الاجتماعيين، أو إذا تبدّد فيه هواء الحرية التي صار يتناقص في العالم العربي إلى حد أن يسجن شخص لأنه قال رأياً مخالفاً للسلطة أو ثقافة القطيع.
وما يزيد الطين بلّة أنّ كثيراً من المثقفين ذوو حسابات فاعلة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها مستثمرة بطريقة تعكس نرجسية متضخّمة، وتنأى عن الخوض في القضايا المصيرية، أو هجاء الديكتاتوريات، أو الدفاع عن حق النّاس في التعبير عن آرائهم، والإفصاح عن معتقداتهم، والمنافحة عن اختياراتهم في اللباس وطريقة العيش، وبالتالي خلق تيار تعدّدي يقدّس حق الاختلاف، ويحول دون تنمّر تيار أو جماعة أو هيئة أو حزب على المجتمع، بذريعة حماية المقدّس والوصاية الأبوية على الناس.
نقلاً عن حفريات