كريتر نت – متابعات
كانت فكرة انقراض البشرية إحدى الثمار الكئيبة لعصر التنوير منذ الثورة الفلكية في القرن السابع عشر واكتشاف النظام الشمسي والمذنبات التي يمكن أن تصطدم بالأرض، إلى علم الديناميك الحراري واليقين بالموت الحراري للشمس، وصولاً إلى القرن العشرين الذي حمل معه فكرة أن الانقراض قد لا يحدث لأسباب طبيعية؛ بل بسبب تقنيات حديثة مثل الترسانة النووية التي لعب الكمبيوتر دوراً كبيراً في تطويرها.
وعلى مدى العقدَين الماضيَين كان الذكاء الاصطناعي يشغل فكر زمرة من الأكاديميين كرَّسوا أنفسهم للتفكر في المخاطر الوجودية التي يحملها. وقد رأى هؤلاء أن العالم الذي يحتوي على كيانات تفكر بشكل أفضل، وتتصرف بشكل أسرع من البشر ومؤسساتهم، ولها أهداف لا تتماشى مع مصالح الجنس البشري، سيكون مكاناً في غاية الخطورة.
وقد دفعت الطفرة الملحوظة في قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي هذه النقاشات حول المخاطر الوجودية إلى مخيلة الجمهور وجداول أعمال كبار المسؤولين. ولكن حتى الآن تقوم منظومات الذكاء الاصطناعي بكتابة النثر والشعر وبرامج الكمبيوتر، وتخلق الصور والصوت ومقاطع الفيديو، وتقوم بالتنبؤ بناءً على المعطيات النمطية المتوفرة. ومن السهل أن نتخيل أن هذه المنظومات يمكن أن تحمل معها قدرة كبيرة على الأذى؛ لكن من الصعب تقبُّل فكرة أنها ستسيطر على الحضارة أو ستحل محلنا كما يحذر منتقدوها المتشائمون.
تهديد أم تغيير؟
إن عدم وجود عقول تتفوق علينا لا يعني أنه ينبغي تجاهل حجم التغيرات التي قد تحملها هذه التكنولوجيا، وحتى لو لم تكن هذه التكنولوجيا تهدد بنهاية العالم؛ فهي قادرة على تغييره. لقد بدأنا للتو بالانتقال إلى عالم مليء ببرامج الكمبيوتر القادرة على استيعاب المستويات البشرية للمحادثة وفهم اللغة واستيعاب البيانات والتعرف على الأنماط. وقد يكون انتشار المعرفة الزائفة نقطة تحول في التاريخ، ويمكن أن يكون لهذه البرامج آثار ليس فقط على كيفية كسب البشر قوتهم وتنظيم حياتهم؛ بل أيضاً على كيفية تفكيرهم بإنسانيتهم.
وللوصول إلى تصور منطقي لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، يمكننا مراجعة ثلاثة ابتكارات سابقة؛ هي: متصفح الإنترنت، والمطبعة، وممارسة التحليل النفسي. الأول غيَّر أجهزة الكمبيوتر والاقتصاد، والثاني غيَّر طريقة وصول الناس إلى المعرفة، والأخير غيَّر طريقة فهم البشر لأنفسهم.
في مطلع التسعينيات، غيَّر متصفح الإنترنت المتواضع طرق استخدام الكمبيوتر وطرق تنظيم المعلومات، ووفَّر القدرة على ربط أجهزة الكمبيوتر بالشبكات، وأصبح نافذة يمكن الوصول من خلالها إلى الملفات والتطبيقات أينما وجدت. وتم فصل الواجهة التي يتفاعل بها المستخدم مع التطبيق عن التطبيق نفسه. وتمكنت شركات؛ مثل “أمازون” و”ميتا” و”غوغل” من تحقيق أرباح هائلة من خلال تحويل المتصفح إلى قناة للسلع والمعلومات والاتصالات البشرية.
“جي بي تي” والتحول الجديد
وقد شهدت الأشهر القليلة التي انقضت منذ إطلاق “تشات جي بي تي”، انفجاراً هائلاً في ريادة الأعمال؛ جعل طفرة “دوت كوم” تبدو هادئة. فمنظومات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على “نماذج اللغة الكبيرة” لا تتطلب من المستخدم سوى كتابة بضع كلمات وانتظار النتيجة. وحتى بالنسبة إلى أولئك الذين يعملون على تطويرها، فهي قادرة على مساعدتهم في عملهم بفضل قدرتها على كتابة الرموز البرمجية واحتوائها على اللبنات الأساسية للعديد من البرامج الممكنة؛ الأمر الذي يتيح لهذه المنظومات أن تقوم بدور المساعد الذي يكتب نصف شفراتها.
وعندما يتم فصل واجهة المستخدم عن تطبيق البرنامج، فمن المرجح أن تقوم منظومات “نماذج اللغة الكبيرة” بتفكيك كلتا الفئتَين، وهذا ما قد يكون تحولاً أساسياً في طريقة استخدام الناس أجهزةَ الكمبيوتر ونماذج الأعمال التي يستخدمونها فيها.
قد تبدو قدرة الكمبيوتر على كتابة برامجه بنفسه ميزة هائلة ستغير قواعد اللعبة؛ ولكنها تحمل معها سلبياتها. بينما توفر المتصفحات بشكل أساسي نافذة على المحتوى أو البرنامج الذي ينتجه البشر، تقوم منظومات “نماذج اللغة الكبيرة” بإنشاء المحتوى بأنفسها. وعندما تقوم بذلك فإنها ربما تهلوس (أو كما يفضل البعض؛ تفبرك) بطرق مختلفة. وبعض هذه الهلوسات يكون مجرد هراء لا معنى له؛ ولكن بعضها الآخر -مثل دمج أفعال وهمية في السير الذاتية لأشخاص حقيقيين- يكون قابلاً للتصديق وضاراً إلى حد كبير. وفي بعض المنظومات تكون المعلومات الزائفة القابلة للتصديق خطأً؛ ولكنها بالنسبة إلى البعض الآخر ستكون ميزة. والفيديوهات المزيفة التي تتناول السياسيين ليست سوى البداية. وقد حذر رينيه ديريستا، من مرصد “ستانفورد للإنترنت”، من أن المعلومات المضللة ستصبح “بلا حدود” قريباً جداً؛ قد لا يكون هذا التهديد لإمكانية النقاش العام وجودياً، ولكنه مقلق للغاية.
من المطبعة إلى الذكاء الاصطناعي
وكما أنه من الصعب أن نتخيل عالم اليوم من دون وجود المطبعة؛ فإن التكهنات بالمستقبل من دون وجود الذكاء الاصطناعي ستكون في أحسن الأحوال مجتزأة، وفي أسوئها مضللة. يرجع كثيرون الفضل إلى اختراع جوتنبرغ في كل جوانب الحياة التي نشأت في القرن الذي أعقب المطبعة. فقد غيرت الطباعة العلاقة بين الإنسان والله، وبين الرجل والمرأة، وبين الماضي والحاضر، وسمحت بنشر المعرفة وتراكمها على نطاق واسع، وخلقت مفهوم الملكية الفكرية وإمكانية قرصنتها. لقد سمحت الكتب المطبوعة للعلماء بالتجول في مجالات معرفية أكبر مما كان ممكناً في أي وقت مضى، وهذا هو وجه الشبه بينها وبين منظومات الذكاء الاصطناعي.
كطريقة لتقديم المعرفة؛ تعِدُ منظومات الذكاء الاصطناعي بأخذ الجانبَين العملي والشخصي للكتاب إلى آفاق أخرى، وفي بعض الأحيان يمكن أن تلغيهما تماماً. وأحد التطبيقات الواضحة لهذه التكنولوجيا هو تحويل مجموعات المعرفة إلى مادة لروبوتات المحادثة. وبدلاً من قراءة النص الكامل يمكنك سؤال روبوت المحادثة والحصول على الإجابة بناء على النص الكامل للكتاب. فلماذا تقلب الصفحات عندما يكون بإمكانك استجواب العمل ككل؟
يبدو أن الجميع قد بدؤوا باستخدام هذه التكنولوجيا كطريقة لتوفير المعرفة. فقد بدأت شركة “بلومبيرغ” الإعلامية، بالعمل على “بلومبيرغ جي بي تي”؛ لتوفير المعلومات المالية، وظهرت إصدارات مبكرة من “قرآن جي بي تي” و”إنجيل جي بي تي”. وبدأت العديد من الشركات الناشئة بتقديم خدمات تحويل جميع المستندات الموجودة على القرص الصلب للمستخدم أو تلك المخزنة على الجزء الخاص به من السحابة إلى مصدر للاستشارات الحوارية. وبدأ الكثير من مستخدمي روبوتات المحادثة بالاستفادة منها كلوحات صوتية، تشبه زميلاً أو مساعداً واسع الخبرة يمكنك التحدث إليه في أي وقت.
مقلِّد أم مفكِّر؟
قام الباحثون في المعهد الأسترالي للتعلم الآلي ببناء نسخة مبكرة من هذا المساعد للملحنة والموسيقية لوري أندرسون، وتم تدريبه على عملها وعلى عمل زوجها الراحل لو ريد. تقول أندرسون إنها لا تفكر في استخدام النظام كطريقة للتعاون مع زوجها الراحل؛ ولكن قد يستسلم آخرون بسهولة لمثل هذا الوهم. وإذا ما أصبحت روبوتات المحادثة إلى حد ما الصوت الداخلي لمستخدمها؛ فإن هذا الصوت سيستمر بعد الموت إذا ما رغب الآخرون في التحدث معه. ويبدو أنه من شبه المؤكد أن أشخاصاً كثيرين سيتركون روبوتات المحادثة الخاصة بهم خلفهم بعد موتهم.
ومثل هذه التطبيقات والآثار تستدعي إلى الأذهان مقال سيغموند فرويد الكلاسيكي “الغريب”؛ حيث ينطلق فرويد من فكرة أن الغرابة تنبع من الشكوك حول ما إذا كان كائن يبدو حياً، هو حيُّ بالفعل، أو على العكس؛ أي ما إذا كان كائن يبدو هامداً، حياً. وهذا النوع من الشكوك يصعب تجنبه بالنسبة إلى مَن يفكرون بالذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من أن باحثي ومطوري الذكاء الاصطناعي يمكنهم أن يشرحوا آليات عمل منظوماتهم؛ فإنهم غير قادرين على معرفة ماذا يحدث في داخلها، فالذكاء الاصطناعي يعمل بطريقة لم يتمكن العلماء من إدراكها بعد.
ترى إميلي بيندر، الأستاذة في جامعة واشنطن في سياتل، أن منظومات الذكاء الاصطناعي لا تمتلك فهماً حقيقياً، ومع افتقارها إلى الخبرة في الحياة الواقعية أو التواصل البشري؛ فهي لا تقدم شيئاً سوى القدرة على تقليد الأشياء التي تدربت عليها، وهي قدرة تستفيد من الكميات الهائلة من البيانات؛ ولكنها لا تشبه الفكر على الإطلاق.
إن قبول فكرة أن “نموذج اللغة الكبير” الذي يبدو بشرياً هو مجرد حسابات وإحصاءات لا أكثر؛ يمكن أن يؤثر على كيفية تفكير الناس في أنفسهم. لقد صوَّر فرويد نفسه على أنه استمرار للاتجاه الذي أسسه كوبرنيكوس، والذي أزال البشر من مركز الكون، وداروين الذي جردهم من مكانة خاصة وهبها الله لهم من دون بقية الحيوانات. تكمن فائدة علم النفس -كما رآها فرويد- في السعي لإثبات أن الشخص ليس سيد نفسه في بيته. ويمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يأخذ الفكرة أبعد من ذلك. يتحول منزل فرويد إلى منزل ذكي غير مأهول؛ تضيء فيه الأنوار وتنطفئ تلقائياً، ويفتح منظم الحرارة الذكي النوافذ ويسدل السائر. لا حاجة إلى سيد لهذا المنزل عل الإطلاق.
ربما يكون هذا غريباً نوعاً ما؛ ولكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن كثيراً من الناس سيأخذون هذه الفكرة على محمل الجد. عندما يتعلق الأمر بالحياة اليومية، فقد أظهرت البشرية الكثير من المرونة في مواجهة كوبرنيكوس وداروين وفرويد، ولا يزال الناس يؤمنون بالله والأرواح وبخصوصية البشر إلى جانب اهتمامهم بالعلوم المعاصرة، ويمكنهم التكيف بسهولة مع العالم المعرفي الزائف؛ على الأقل في ما يتعلق بالجانب الفلسفي. سيدرك الناس أن شيئاً ما ليس حياً، ويتعاملون معه على هذا الأساس، ولكنَّ عدداً قليلاً من ذوي الأرواح مفرطة الحساسية سيجدون أنفسهم يحدقون في هاوية وجودية -لكنها شخصية- سببتها احتمالية أن فكرها الظاهري كله مجرد هباء.
نقلاً عن “ذا إيكونوميست”