كريتر نت – متابعات
تسود قناعة لدى طيف واسع من الملاحظين والخبراء بأن توصل روسيا وأوكرانيا إلى تمديد اتفاقية تصدير الحبوب من منطقة البحر الأسود لا تعدو أن تكون مجرد مسكنات للأسواق، ما لم يتم اتخاذ قرارات عملية فعّالة لاستدامة الإمدادات العالمية بشكل مستقر.
وتوصلت روسيا وأوكرانيا الأربعاء إلى تفاهم لتمديد اتفاقية تصدير الحبوب حتى الصيف المقبل بعد فترة من الضبابية، في تحول قد يبعث الهدوء بالأسواق العالمية لبعض الوقت.
وقبل يوم على انتهاء الاتفاق، قال الرئيس التركي المنتهية ولايته رجب طيب أردوغان “بجهود بلدنا، وبدعم من أصدقائنا الروس ومساهمة أصدقائنا الأوكرانيين، تقرر تمديد اتفاق حبوب البحر الأسود، لمدة شهرين إضافيين”.
وتوسطت أنقرة والأمم المتحدة في اتفاق الحبوب عبر موانئ البحر الأسود لفترة مبدئية مدتها ستة أشهر في يوليو الماضي، للمساهمة في مواجهة أزمة غذاء عالمية تفاقمت بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أحد أكبر مصدري الحبوب في العالم.
ولإقناع روسيا بالسماح بتصدير الحبوب من المنقطة، وافقت الأمم المتحدة في الوقت ذاته على مساعدة موسكو في ما يتعلق بشحناتها الزراعية لمدة ثلاث سنوات.
وكانت موسكو قد وافقت على تمديد الاتفاق لأربعة أشهر إضافية في نوفمبر الماضي، ثم وافقت في مارس 2023 على تمديده لشهرين فقط حتى الثامن عشر من مايو الحالي، إلى حين تلبية قائمة الطلبات المتعلقة بصادراتها الزراعية.
وسمح الاتفاق منذ بدء تنفيذه بتصدير أكثر من 30 مليون طن من الحبوب من أوكرانيا منذ بدء تطبيقه في الأول من أغسطس الماضي.
وفي حين لا تخضع الصادرات الروسية من المواد الغذائية والأسمدة للعقوبات الغربية التي فُرضت في أعقاب غزو أوكرانيا في فبراير 2022، فإن موسكو تقول إن القيود على المدفوعات والخدمات اللوجستية والتأمين تشكل عائقا أمام الشحنات.
وقبل هذا الإعلان قال متحدث باسم الأمم المتحدة “من المقرر أن تغادر آخر سفينة حبوب من ميناء في أوكرانيا الأربعاء وتعبر الممر البحري مع حمولتها”.
وأشار إلى أن هناك سفينة أخرى كانت في طريق العودة إلى تركيا الثلاثاء الماضي وخمس سفن أخرى في انتظار عملية تفتيش في المياه التركية.
وتعد أوكرانيا من أكبر منتجي الحبوب ومصدريها عالميا، لكن صادراتها تضررت، إذ انخفضت الموسم الحالي بواقع 26.6 في المئة لتصل إلى 32.9 مليون طن حتى مارس الماضي متأثرة بانخفاض الحصاد وصعوبات لوجستية.
ويزيد استمرار التوتر بين الجارين من حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية هذا العام، وسط احتمال عودة الأسعار إلى الارتفاع مجددا وعدم مجازفة المشترين بزيادة الشحنات رغم انخفاض أسعار القمح الروسي.
وبعدما أدى تقلب الإمدادات إلى توسيع مكاسب تجارة الحبوب على مدى أشهر، تراجعت الأسعار خلال الفترة الأخيرة إلى مستواها ما قبل النزاع، ما يشكل نقطة توازن هشة.
ويرى الباحث سيباستيان أبيس، ومؤلف كتاب “الجغرافيا السياسية للقمح”، أن إعادة النظر في الممرات التي تسمح بتصدير القمح والذرة وعباد الشمس من أوكرانيا ستكون خطوة “خطيرة”، لأن “أحدا لم يحل مكانها” من الدول القليلة المنتجة والمصدرة للقمح.
30 مليون طن تم تصديرها من أوكرانيا منذ الاتفاق المبرم مع روسيا الصيف الماضي
وخلال خمسة عشر شهرا، على حد قول سيباستيان أبيس، أبعدت هذه الممرات خطر حدوث كارثة غذائية كبرى في العديد من البلدان الضعيفة، مما أتاح تصدير حوالي 60 مليون منتج زراعي من أوكرانيا وخفض أسعار الحبوب العالمية.
وبعد أن بلغت ذروتها في مايو العام الماضي، حيث بلغ سعر القمح ما يقارب 440 يورو للطن في السوق الأوروبية، تراجعت الأسعار حتى وصلت إلى ما دون مستواها قبل الحرب، لتبلغ نحو 235 يورو مؤخرا في منتصف مايو.
وقال أبيس، الباحث المشارك في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية “آي.آر.آي.أس”، لفرانس برس إن “الاتفاق الذي لا يزال الوحيد الموقع منذ بداية الحرب أساسي”.
وشبه ذلك كما هو الحال بالنسبة لممر التضامن الأوروبي الذي أطلق في مايو 2022 أساسا عن طريق السكك الحديد، ولكن أيضا عن طريق البر وعبر نهر الدانوب.
وحتى مع خسارة ربع أراضيها الصالحة للزراعة مع تراجع الإنتاج المتوقع في 2023 بنسبة 50 في المئة مقارنة بعام 2021″، تظل المساهمة الأوكرانية “مهمة جدا”.
وأوضح أبيس أن “أحدا لم يأت ليحل محل أوكرانيا في الأسواق العالمية، ولن تتمكن أوروبا من زيادة الإنتاج، ويتوقع أن ينخفض الإنتاج الأميركي”.
وأكد أن في سياق تغير المناخ، فإن وضع إسبانيا المستفيد الثاني من الممر البحري، مأساوي، وأن روسيا التي يعد حصادها خلال الموسم الحالي استثنائيا “قد يكون أداؤها أسوأ العام المقبل”.
وبحسب الباحث، فإن هذا الوضع يكشف أن “الحاجات لن تنخفض، حيث تجاوزنا هذا العام عتبة 200 مليون طن من مشتريات القمح في العالم، بينما كنا لا نزال عند 100 مليون طن سنويا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين”.
واليوم روسيا، التي هي أكبر مصدر للقمح في العالم ولديها أكثر من 30 في المئة من المخزون القابل للتصدير “تغرق السوق” و”تدعم روايتها”، بعد أن أكدت أنها ساهمت في فتح الممر البحري، فإنها “تفتخر بقدراتها على تأمين الغذاء للعالم” مع أوكرانيا أو من دونها.
ويشدد سيباستيان على أن روسيا تعمد إلى استخدام تجارتها الزراعية سلاحا، وباتت الحبوب اليوم السلاح الدبلوماسي في قلب “امتلاك الدولة لقطاع بأكمله”.
روسيا تعمد إلى استخدام تجارتها الزراعية سلاحا، وباتت الحبوب اليوم السلاح الدبلوماسي في قلب “امتلاك الدولة لقطاع بأكمله”
واستنادا على ذلك فإن الحبوب ليست تجارة حرة مع عقود وحقوق وجهات اقتصادية تبيع لمن يدفع أعلى سعر. وتبيع روسيا بأسعار منخفضة وتمارس ضغوطا على الدول المستوردة ويمكنها أن تقرر قطع إمداداتها في حال انتقدت سياستها.
وتزيد موسكو التي هي في موقع قوة الضغوط، وفق الباحث، مع كل تجديد للممر البحري، مطالبة برفع جميع العقبات أمام تجارتها للحبوب والتي لا تستهدفها العقوبات بشكل مباشر، لكنها تتأثر بالحد من إمكاناتها المصرفية.
ومع هذا الوضع، فإن استدامة الممرات الأوروبية أو “ممرات التضامن التي سمحت بإخراج أكبر قدر ممكن من الحبوب من أوكرانيا عن الطريق البحري الذي لا يخضع لقرارات روسيا أو تركيا” أمر أساسي.
ويعتبر خبراء أن الرفض الأخير لبعض بلدان أوروبا، منها بولندا وبلغاريا والمجر، السماح باستيراد الحبوب الأوكرانية عبر أراضيها يشكل موقفا مفهوما لمواجهة المنافسة من المنتجات المعفاة من الرسوم الجمركية، وتراه غير مقبول لأنه قرار من جانب واحد.
وأمام هذا الوضع، أثار قرار المفوضية الأوروبية منح مساعدات بقيمة مئة مليون يورو لهذه الدول، دون استشارة جميع الدول، احتجاج 14 دولة أخرى منها فرنسا.
وبالنسبة للباحث أبيس، هذه ليست نهاية التضامن الأوروبي، ولكن “على المفوضية أن تكون أكثر شفافية وتحافظ على الثقة على المدى الطويل”.
وفي هذه المرحلة، لا شيء مكتسب. ويقول “إن الحل سيكون في نقل القمح بشكل جيد بحرا وبرا”، مشددا على أن ما من دولة منتجة اليوم بمنأى عن الحوادث المناخية.