نزهة بوعزة
باحثة مغربية
في السياق الإسلامي العربي تقوم المقاربة الثقافوية على تفسير كل شيء انطلاقاً من الثقافة السائدة، فاختزال المقاربة الثقافوية للسياسة والاقتصاد وغيرهما في الثقافة، على الصعيد المعرفي التفسيري، يترافق مع قيامها بردّ الفرد إلى الجماعة، فيغيب مفهوم الفرد في مثل هذه المقاربات؛ لأنّها تعمل على صياغة تصورات شمولية تغلب عليها اليوتوبيا لا الواقعية، لكن ألا تعمل مثل هذه المقاربة على خلق معارك فكرية وهمية لا تعكس سياقنا العربي؟ وكيف يمكن أن توازن بين مقاربتين للعلمانية والدينية، تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين؟ أليس الجمع بينهما إعلاناً عن فشلهما في تشخيص واقعنا؟
المقاربة الثقافوية هي رؤية ماضوية؛ تعكس أصلاً نقياً ماهوياً فوق تاريخي، ورؤية تتجاهل الواقع بدعوى أنّه مجرد عرض لسبب يرتبط بالأصل
ينبّه حسام الدين درويش في كتابه: “في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية، نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية”، أنّنا غالباً ما نعرف الثقافة تعريفاً يدمج الأفراد في منظومة الكل الثقافي، ممّا يجعله مفهوماً غير معياري؛ يعبّر عن سمة إنسانية عامة، تغيب فيها بالأساس آلية قراءة الوضع العربي، ممّا يجعله نموذجاً يوتوبيّاً يرتبط بصورة ذهنية لا تعكس واقعاً، بقدر ما تعكس صراعا ثنائياً، ممّا يفرز نتيجتين متناقضتين: الثقافوية العلمانية التي ترفع شعار الإسلام هو العائق، والثقافوية الإسلامية التي تطرح الإسلام هو الحل، والغائب هنا بالدرجة الأولى هو البُعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي المشكل للمشكلة بالأساس، ممّا يجعلنا نتخبط في الأعراض، عوض التوجه صوب المشكل، فلمَ يتم التغاضي عن المقاربة السياسية حتى عند العلمانيين؟ وهل هو تغاضٍ واعٍ أم مقصود؟
المقاربة الثقافوية
يركز درويش على أنّ المقاربة الثقافوية هي مقاربة ماهوية، ما دامت تعتبر الدين جوهراً ثابتاً لا يتغير عبر الزمكان، الأمر الذي يخلق تغافلاً عن التمايز الذي تخلقه أشكال التدين، وهو تغافل واعٍ؛ لأنّه يتماشى مع التضليل الذي ترسمه المقاربة في جوهرها، هذا التغافل يعكس اعتقاداً بوجود جوهر/ أصل نقي، لا يطاله تغيير أو مس، وهو التصور الذي غالباً ما ألصقناه بوعي أو بدونه على المقاربة الدينية؛ بدعوى أنّها تتمسك بالأصل الديني، وترفض الانزياحات التي لم يولّدها هذا الأصل المفترض، أو ولّدها لكنّها مشوهة حسب رؤيتهم، لكنّ درويش يوازي بشكل صريح بين المقاربة الدينية والعلمانية، فالمقاربتان معاً فشلتا في تحقيق قراءة واقعية تعكس الوضع العربي، فكيف يستقيم الأمر؟ أليس المتعارف عن العلمانية صراعها المرير مع المقاربة الدينية؟ فكيف يتفقان في التمسك بالأصل؟
المقاربة الثقافوية هي رؤية ماضوية؛ تعكس أصلاً نقياً ماهوياً فوق تاريخي، ورؤية تتجاهل الواقع بدعوى أنّه مجرد عرض لسبب يرتبط بالأصل، وهي الرؤية الثقافوية العلمانية نفسها، الاختلاف يكمن فقط في أنّ هذه الأخيرة تعتبر الأصل أصلاً سلبياً وجب التخلص منه، والثانية تتغنى بهذا الأصل وتتمسك باسترجاعه؛ لحلّ الإشكالات المعاصرة في سياقها العربي، إذن المقاربتان تتخذان اتجاهاً واحداً، لكنّ عملية تقييم هذا الأصل وكذا طريقة توظيفه في توجهات كل مقاربة، هي جوهر الاختلاف.
الانفصال عن الواقع
إنّ استحضار هذا الماضي، سواء للتأكيد على ضرورة إزاحته، كما هو الأمر في المقاربة العلمانية، أو مطلب استرجاعه كما يأمل الدينيون؛ يدخلنا في باب الاغتراب أو الانفصال عن واقعنا المحمّل بمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية، يتم التغاضي عنها عبر التغني بالماضي المجيد، أو رمي هذا الماضي بكل أسباب تخلفنا وتأخرنا، فوهم الأصل هو أصل تفكير المقاربتين على حدٍّ سواء. إذ كل اتجاه يركز على ما يخدم تقييمه للدين، وليس ما يعكسه سياق حاضرنا، فنصير أمام عملية تكفير ثنائي؛ تكفير علماني/ تكفير ديني، الجامع بينهما هو غياب الإقرار بالاختلاف، أو إمكانية خلق أرضية للتوافق، كأنّنا أمام حوار دوغمائي يعمل على تعميق جرح الوعي الإسلامي العربي عوض تضميده.
استحضار هذا الماضي، سواء للتأكيد على ضرورة إزاحته، كما هو الأمر في المقاربة العلمانية، أو مطلب استرجاعه كما يأمل الدينيون؛ يدخلنا في باب الاغتراب أو الانفصال عن واقعنا المحمّل بمشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية
هذا الجرح لا يعكس مسؤولية الثقافة، بقدر ما يستدعي إشراك الطرف الأساس في إحداث المشكل؛ إنّها السياسة، فالوضع السياسي يلعب أهمية كبرى في هذا الجرح، لكنّ الرؤية الثقافوية تتسم ببعد لا أخلاقي؛ يتمثل في تحويلها السياسة إلى ضحية، والثقافة إلى مجرم، أو المساواة بينهما، وهو ما سمّاه درويش “الاحتقار الذاتي الجمعي”؛ إنّها عملية تضليلة وهمية لا تمسّ واقعنا، لأنّها بالغالب تميل كفة الاتهام نحو الشعب، فتلوم العوام لقيمهم الرجعية (منظور العلمانيين مثلاً)، أو قيمهم المنحلة التي لا تعكس الأصل الديني الحق (المقاربة الدينية)، فهي تجذّر مسألة التضليل بشكل أكثر حدة، ألا يمكن القول إنّ توجيه الاتهام نحو السياسة هي بالنهاية نتاج تجربة صاحبها السوري، الذي عايش الثورة السورية، وما تلاها من مجازر وتهجير؟
قد يعبّر السؤال في الحقيقة عن مطية جديدة؛ للتهرب من مواجهة المشكلة الأساسية، لأنّنا ما زلنا لا نجرؤ على الانتقال من مستوى الانفعالات إلى مرتبة المشاركة في الفعل، أو ملامسة مكمن الجرح بشكل صريح دون التواءات واهية. إنّ الوجهة التي يرنو درويش إلى تسليط الضوء عليها هي أنّ عميلة تشخيص المقاربة الثقافوية للمشكل؛ هي تشخيص مضلل وواهٍ، استغرق زمناً دون أن يجد له طريقاً للحل أو للتوافق، وأنّ التغيير لا يأتي من الثقافة، فهي ليست السبب، بل هي مجرد نتيجة لطبيعة السلطة السياسية التي ننتمي إليها، ولنا خير مثال في (سوريا)، ممّا يرسم أبعاد مقاربة جديدة؛ أنتجها السياق العربي فيما بعد “الربيع العربي”، وهو ما يعني أنّ المقاربة تخضع بدورها للصيرورة التاريخية، لكنّها صيرورة موجهة من طرف السياسة، ولا تخضع لمنطق ذاتي. إذ صار الشعب السوري بين نارين: إمّا القبول بالنظام الاستبدادي، أو العيش في كنف حرب مدمرة، أو التخويف بفوبيا حكم الإسلاميين المحافظين، لجلب الدعم الخارجي والداخلي، وهو حال العديد من البلدان العربية، إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر.
إنّ أطروحة درويش تحمل في الحقيقة راهنية وواقعية لا يمكن نكرانها، فهي تطرح بُعداً ثالثاً؛ غالباً ما نتجنب الخوض فيه، سواء خوفاً أو تضليلاً، يحمل نوايا معينة لكنّه في الغالب ليس جهلاً، فما نراه في سياقاتنا العربية يعكس حملة مباحة ومباركة من طرف السلطة السياسة تجاه المقاربة الدينية، فهي نفسها تعمل على أن تنهل من هذه المقاربة الدينية، فتصير المقاربة العلمانية بوابة لتحقيق معارك إلهائية تعطل ملامسة المشكل بالأساس، ممّا يجعلنا نعي أنّنا إزاء وضع لا يمكن قراءته، انطلاقاً من المقاربة الثقافوية المتعارف عليها، بل يستدعي ضرورة إشراك المقاربة السياسية، ولنا في مثال التغيير الذي تشهده السعودية، بإيعاز سياسي، خير مثال، وإن كان هذا المثال يطرح أيضاً إشكالات أخرى.
نقلاً عن حفريات