رياض حمادي
كاتب يمني
تُوصَف الحركات الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين، بأنّها “براغماتية”، لكن بالعودة إلى مفهوم “النفعية” نعرف أنّ هذه الجماعات أبعد ما تكون عن البراغماتية التي تربط الفكر، والمبادئ والمعتقدات، بقيمتها العملية.
فالمنفعة هي المقياس لصحة الشيء، والفكرة صادقة عندما تكون مفيدة ولها استخدامات عملية ناجحة. ومعنى ذلك أنّ النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة، أو معتقد أو مبدأ، أو رفضها.
*تعلَّم حزب الإصلاح عقد الصفقات والتسويات مبكراً من خلال مشاركاته في الانتخابات البرلمانية والمحلية.
وقد ظهرت هذه السياسة مبكراً بقبولهم تأسيس حزب يضم الجماعة الدينية في اليمن متجاوزين بذلك الموقف الديني السابق من العمل السياسي والحزبي*
بينما تنطلق هذه الجماعات من حقيقة ابتدائية تفرض نفسها على الواقع، ولأجل هذه الحقيقة يجوز للغاية أن تبرر الوسيلة.
وهي على ذلك انتهازية تمارس السياسة بوعي للاستفادة من الظروف.
الانتهازية بمعنى آخر هي “وضع المصلحة الشخصية قبل مصالح الآخرين، عندما تسنح الفرصة لذلك، أو هي التكيف بمرونة مع الظروف المتغيرة لتعظيم المصلحة الشخصية”.
ومن أجل ذلك تجيز هذه الجماعات “توظيف المكر والازدواجية (الخداع) في الكفاءة السياسية أو في السلوك العام”.
الغاية تبرر الوسيلة
في هذه الخانة يمكن أن نضع بعض سياسات حزب التجمع اليمني للإصلاح، مثل: انضمامه المتأخر إلى تكتل أحزاب اللقاء المشترك في 2003م، وهو تكتل معارض كان قد تأسس في عام 1999م تحت اسم “مجلس التنسيق الأعلى لأحزاب المعارضة” وكان يضم الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي وحزب الحق واتحاد القوى الشعبية اليمنية.
وقد أسفر التكتل عن اختيار مرشح للرئاسة (فيصل بن شملان) ضد علي عبد الله صالح في انتخابات 2006م.
كان (حزب الإصلاح)- اختصاراً- قد كفَّر الحزب الاشتراكي، شريك حزب المؤتمر في الوحدة اليمنية. ولذلك يعدّ البعض تحالفه هذا براغماتية سياسية.
وفي سياق هذه البراغماتية أو التقية تبرّأ “الإصلاح” من انتمائه لجماعة “الإخوان المسلمين” في بيانين، (2013، 2016).
وفي أحداث ثورة 2011م صمتوا عن مشاركة المرأة إلى جانب الرجل في معركة الثورة، إضافة الى حشدهم القوي للنساء في المظاهرات.
لكن هل الهدف من هذه “البراغماتية” الدفاع عن مصالح الحزب أم عن مصالح الوطن؟
في كل مرة تحضر فيها مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” علينا أن نسأل: أيّ غاية وبأيّ وسيلة؟
تعلَّم حزب الإصلاح عقد الصفقات والتسويات مبكراً من خلال مشاركاته في الانتخابات البرلمانية والمحلية.
وقد ظهرت هذه السياسة مبكراً بقبولهم تأسيس حزب يضم الجماعة الدينية في اليمن متجاوزين بذلك الموقف الديني السابق من العمل السياسي والحزبي.
فبعد إقرار التعددية السياسية في اليمن، بعد الوحدة 1990، شرعن “إخوان اليمن” المشاركة السياسية وفقاً لقاعدة عدم الخروج على الحاكم، مستعملين في ذلك التأصيل الشرعي وسيلة بيد السياسة.
وظلت هذه الازدواجية ماثلة حتى بعد انتخابات 2006 في مقولة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وهو يصف الرئيس صالح بقوله: “أنا شيخه، وهو رئيسي” في إشارة إلى أنّ الأحمر هو شيخ قبيلة حاشد التي ينتمي إليها صالح. ثورة 2011 زادت حاجة الحزب لسياسة “الغاية تبرر الوسيلة”، فسلكوا خطاباً إعلامياً منفتحاً، وتوسعت علاقات الحزب مع مختلف القوى المجتمعية والحزبية، ومع دول إقليمية ودولية. أظهر الحزب انفتاحاً، لكنّه ظل وفيّاً لإيديولوجيا دينية تفرز الآخرين وفقاً لها، وتبرز من حين إلى آخر عبر مواقفه من بعض القضايا المدنية التي تتعارض مع العقيدة وفتاواه ضد الكُتّاب والصحفيين.
ومثلما كان له في السابق قدم في المعارضة وأخرى في السلطة، أمكن له وضع قدم في قطر وتركيا وأخرى في السعودية، في سياسة يمكن أن تُفهم على أنّها براغماتية أو انتهازية.
حزب وطني أم ديني؟
تأسس حزب التجمع اليمني للإصلاح، في 13 أيلول (سبتمبر) 1990، بعد أشهر من إعلان الوحدة اليمنية، ليكون الذراع السياسية لكيان ديني ظل يمارس حضوره وتأثيره في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي منذ ثورة أيلول (سبتمبر) 1962م.
يضم الحزب خليطاً من أفراد ورموز من الطبقة الوسطى والفقيرة؛ من طلّاب وتجار وجنود ومثقفين وأساتذة جامعات…، ولهم حضور في المؤسسات والمواقع الاجتماعية كافة، لكن ما يجمع هذا الخليط هو الدين، وما السياسة سوى وسيلة لتحقيق الغاية الدينية المعلنة في برامجهم ومشاريعهم.
*جماعات الإسلام السياسي في ممارساتها السياسية وفي برامجها التنظيرية لا تسعى لتقديم نظام جديد يمكن أن يكون بديلاً أفضل من النظام السياسي الفاسد.
وحتى حينما عملت لإسقاطه كان هدفها وراثة تلك السلطة بعنوان آخر*
يُعرِّف حزب الإصلاح نفسه بأنّه: “حركة إصلاحية يمنية جامعة تشكّل امتداداً حيّاً لحركة التجديد والإصلاح الناهضة في تاريخنا الحديث، وأنّه يُشكّل الوعاء التنظيمي لتيار الصحوة الإسلامية”. وبأنّه: “تنظيم شعبي سياسي يسعى للإصلاح في جميع جوانب الحياة، على أساس مبادئ الإسلام وأحكامه، ويأخذ بكل الوسائل المشروعة لتحقيق أهدافه”.
لكنّ غاية الحزب وجديته تظهر من خلال مواقفه التي يُعبّر بها عن ولائه؛ إمّا للدفاع عن الله، وإمّا عن الوطن.
فالحزب يرى في المادة الثالثة من الدستور -“الإسلام مصدر رئيسي للتشريعات”- مرجعية أساسية للدولة والحكومة،
وقد جعل من هذه المادة معركة حشد لها مسيرة مليونية عام 1991م. فالدولة، في نظره، “ضرورة اجتماعية ووسيلة شرعية لازمة”، غايتها الأولى “حراسة الدين” ثم “بسط العدل ورعاية مصالح المواطنين”.
كما أنّ قبول الحزب للتعددية السياسية والحزبية وتمكين المرأة من المشاركة السياسية، إلى غيرها من المستجدات التي فرضتها الحياة السياسية محلياً وخارجياً، مشروط بعدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية ومبادئها.
من الشواهد على تقديم الحزب مصلحة الدين والجماعة الدينية على المصلحة الوطنية أنّهم تحالفوا، في الأعوام الـ (5) الأولى من عمر الثورة، ضد الرئيس السلال والتواجد المصري في اليمن، لا لدواعٍ وطنية، بل للتضامن مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي كانت في صراع مع عبد الناصر وقتها.
جماعات الإسلام السياسي في ممارساتها السياسية وفي برامجها التنظيرية لا تسعى لتقديم نظام جديد يمكن أن يكون بديلاً أفضل من النظام السياسي الفاسد.
وحتى حينما عملت لإسقاطه كان هدفها وراثة تلك السلطة بعنوان آخر. ورغم أنّ الأحزاب السياسية تستمد شرعيتها وشعبيتها من تلبيتها للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية…، لكنّ الجماعات الإسلامية السياسية بالذات، لا تفقد شعبيتها وشرعيتها وثقة أتباعها عند فشلها أو عجزها عن تلبية تلك المتطلبات، ممّا يعني أنّ ولاء القواعد مبني على أساس ديني (الولاء والبراء) لا على عقد سياسي قائم على تحقيق المصلحة، وبالتالي فالعجز عن تحقيق هذا الشرط/ العقد الضمني يؤدي إلى فقدان الثقة، كما هو سائد في البلدان الديمقراطية.
ويبدو أنّ اليقين الإيديولوجي، عند هذه الجماعات، ينتقل إلى المجال السياسي فتغدو كل الممارسات السياسية موجهة برعاية إلهية! وعلى هذا النحو فاز حزب “العدالة والتنمية” في تركيا مؤخراً!
أداة بيد الغير
منذ تأسيسه استُعمل حزب الإصلاح أداة بيد الغير. يروي الشيخ عبد الله الأحمر في مذكراته أنّ تأسيس حزب الإصلاح جاء بطلب من الرئيس علي عبد الله صالح؛ ليكون واجهة سياسية معارضة للحزب الاشتراكي، وقد استعملهم فعلاً في حرب (94) ضد الاشتراكيين.
وقبلها في الثمانينيات استعملهم للتصدي لـ “الجبهة الوطنية” المدعومة من الحزب الاشتراكي.
لم تكن الجماعة الدينية، قبل وبعد تكوينها لحزب سياسي، معارضة مضطهَدة من قبل النظام. وفي جميع مراحلها، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي وانتعشت مع بداية الثمانينيات، ارتبطت بالنظام السياسي الحاكم وعملت معه وسعت لتحقيق أهدافه وأهدافها من خلاله. كفَّرت الحزب الاشتراكي –
قبل أن تتحالف معه ضمن تكتل أحزاب اللقاء المشترك-
لكنّها صمتت عن فساد نظام صالح ولم تنتقده إلا في الأعوام الأخيرة قبل ثورة 2011م. يكشف
هذا التناقض عن استعمال الدين لصالح أجندات الجماعة إلى درجة تبيح لنفسها المغالطة؛ فالأحزاب ليست كيانات واعية حتى توصف بأنّها مسلمة/ مؤمنة أو كافرة، فضلاً عن أنّ الحزب الاشتراكي لم يكن يعادي الدين.
من الواضح أنّ حزب الإصلاح يتمتع بدهاء شبيه بدهاء صالح الذي استعمله لخدمة بقائه في السلطة، لا في خدمة اليمن. والإصلاحيون يعتقدون باستعمالهم للسياسة -على النحو الذي سبق- أنّهم يخدمون الدين، وربما مصالح اليمن، وهم في كلتا الحالتين (السياسية والدينية) على يقين بأنّهم يسيرون على الصراط المستقيم.
في الأخير: هل السؤال: ماذا كسبنا/ خسرنا بوجود حزب الإصلاح؟ أم: ما الذي كنا لنخسره بغيابه؟ وماذا لو استبعدناه من المشهد السياسي اليمني؟ هل أنّ الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ستكون أفضل؟ ألم تكن صحوة الجماعة السلفية المستوردة مسؤولة، بشكل كبير، عن الظلام الذي حلّ منذ الثمانينيات، وترك أثره السلبي على المجتمع وهويته وثقافته المنفتحتين؟ ألم يقطف الحوثيون (الأشدّ تطرّفاً وعنصرية) ما بذره “الإصلاح”؟
المصدر حفريات