سامح إسماعيل
كاتب مصري
يستطيع الإنسان، بحسب “ديكارت”، من خلال توظيف المعرفة، الوصول إلى الخير المطلق للإنسانية، ومن ثمّ تأسيس منظومة أخلاقية قابلة للتطور الدائم، فكلما اتسعت المعرفة زاد نطاق حرية الإرادة، وخطتِ البشرية خطواتٍ طويلة في طريق الخير المطلق، ومن ثمّ يصبح المسار الأخلاقي للحرية أكثر وضوحاً وبُعداً في الوقت ذاته عن سطوة أيّة أفكار تتخذ الدين شعاراً.
وعليه، يمكن تحرير الأخلاق من دوائر الاستعمال الذرائعي الضيّق، القائم على اعتبار الأديان مصدراً وحيداً لها، وهو ما أدى إلى اختزال مبادئ الأخلاق في إطار ما ورد في كتب التراث، بل وفرضَ على منظومة القيم جموداً أبدياً حين منعها من التجديد والتطور، ممّا يعنى احتكاراً أيديولوجيّاً جائراً للأخلاق؛ أي إنّ الدين أصبح في جوهره مرادفاً للأخلاق، وهو ما يؤدي إلى تهميش مهمّة العقل الأخلاقية؛ بتقديم نموذج صارم لأخلاق ربانية مطلقة يعتبر الجنوح عن أيٍّ منها خطيئة لا تغتفر.
ولكن ماذا في شأن الكثير من الأخلاقيات الدينية التي تروّج لها المرجعيات الأصولية بشكل نقلي دون إدراك طابع التطور والتاريخية؟
نستطيع أن نرصد نسقاً أخلاقياً يدعو إلى العنصرية وإقصاء الآخر واحتقار المرأة في الخطاب الأصولي الكلاسيكي، فهل يمكن لتلك الأخلاق أن تؤسس لمرجعية أخلاقية معاصرة؟ أم أنها تحتاج لقراءة جديدة لوضعها في سياقاتها التاريخية؟
من هنا كانت أشرس الصراعات في التاريخ صراعات دينية، وأبشع المذابح تلك التي ارتكبت باسم السماء، حيث مضى الآلاف إلى حتفهم طوعاً أو كرهاً تحت وطأة الأيديولوجيا الدينية، فهل يمكن أن يؤسس احتكار الدين للأخلاق لأي نوع من الإرادة الحرة؟
بطبيعة الحال، جاءتِ الأديانُ في أزمانها، ووفق قراءة مَن عاصروها؛ لتدعيم منظومة الأخلاق القائمة آنذاك، اتساقاً مع معطيات العصر وطبيعة المعرفة، لكن تلك المنظومة الأخلاقية افتقدت تحت سطوة الأيديولوجيا للقدرة على التطور، ومن ثمّ تجمدت مع ما قامت الأيديولوجيا الدينية بتجميده في قوالبها التي استطاعت أن تؤطر كل شيء، ومن هنا كان لا بدّ، ونحن بصدد تفكيك القراءات التراثية للنص، تحرير منظومة الأخلاق برمّتها، وجعل النزعة الإنسانية مرجعية أساسية لفعل حر يسعى نحو الخير المطلق، فمن المستحيل أن نناقش في عصرنا هذا أخلاقيات معاملة الجواري وأهل الذمة، أو مفاهيم تاريخية مثل الجزية والخراج.
*أنسنة الأخلاق من شأنه أن يؤدي إلى نقلها من مستوى التلقي من ذات عُليا إلى التفاعل المثمر مع الوجود*
انطلاقاً من تلك المعطيات تبدأ عملية تحرير النص من أسْرِ الدوائر الأصولية وطروحاتها، التي أصبحت تنتمي لكتب التاريخ، ولا مجال لدراستها إلا في هذا السياق.
مع بزوغ عصر الأنوار، أصبح الدافع العقلي أقوى من المانع الديني، عندما حاول العقل الإنساني كسر أغلال السلطة الدينية والقفز فوق حواجزها المنيعة، ومن ثم النفاذ إلى عوالم أخرى يسمو فيها بالعقل والمنطق، وفق معايير مغايرة لما كان سائداً في القرون الوسطى، وهو ما انعكس بدوره على شتى الطروحات النظرية والمسائل الفلسفية.
وعليه، لم يعد التدين مجرد استجابة للاغتراب الاجتماعي، وأمكن تحرير الأخلاق من احتكار الدين لها، بحيث تحرر الفعل الأخلاقي من كونه فعلاً نفعيّاً، فأخلاقية الفعل الإرادي لم تعد تنتظر حكم السماء، ولم تعد في حاجة إلى مكافأة أخروية (ملكوت) أو تهديد عقابي (جحيم)، حيث إنّ الموجود البشري المؤمن بإنسانيته يستطيع انتهاج ذلك النهج الأخلاقي في أفعاله كمردود طبيعي للحرية القائمة على أساس إنساني، دون انتظار تقييم، وهو ما يخلّص الفعل البشري من النفعية، من خلال تحرير الأخلاق من اللاهوت؛ فالضمير الأخلاقي الديني/ النمطي يهمل الممكنات والقيم الجديدة الناتجة عن التجربة الحديثة للبشرية، ويظل متشبثاً بمنظومة القيم التي تعود بالنفع على الإنسان في حياته الآخرة فحسب، وبالتالي يعبر عن أنساقٍ أخلاقيةٍ جامدة تجاوزت البشرية كثيراً منها.
أنسنة الأخلاق أمر من شأنه أن يؤدي إلى نقلها من مستوى التلقي من ذات عُليا مفارقة، إلى مستوى التفاعل الإيجابي والمثمر مع الوجود وقوانين الطبيعة. وعليه، يمكن التحرر من سطوة الأيديولوجيا، والتعاطى مع المعتقدات الدينية في إطار إنساني يسعى إلى استخدام التراكم المعرفي لوضع رؤية جديدة تتجاوز التراث، وتنزع هيمنة المقدّس اللاهوتي وبشكل يتفاعل إيجابياً مع التحولات الفكرية والفلسفية، ويخترق المشهد الأصولي المغيب في دوائر التخيلات الأسطورية. من خلال تلك الرؤية يتحقق وجود الإنسان في المجتمع والثقافة والتاريخ، حيث يؤدي الجانب المعرفي دوراً محوريّاً في تكريس الشعور بالحرية من عدمه؛ فالتغييب يدفع إلى الإحالة الدائمة على القدر، أمّا المعرفة فتؤدي إلى الوقوف بشكل موضوعي على حقائق الأشياء بحرية كاملة.
ويمكن القول إنً العقل القياسي يمارس في حضوره أقل مستويات النشاط العقلي، فهو عقل ترادفي لا يستطيع إنتاج معرفة، حيث يهرول دوماً نحو قضايا مطابقة أو مشابهة ليستمدّ منها معارفه ويجد فيها ملاذاً لإشكالياته، وهو عقل لا يستطيع أن يؤسس لبنية معرفية حقيقية، أو ينتج إبداعاً إنسانيّاً بسبب طابعه النقلي، فيغدو في طروحاته انعكاساً لفكرٍ جامدٍ يقبع على الجانب الآخر من نهر الحضارة الإنسانية.
ذلك الانتحار العقلي يصنع أوثاناً أشد وطأة من أوثان العصور الأولى.
وعبر العصور لم تكن تلك المرجعيات الدينية الغارقة في غيابات جبّ المفاهيم الكهنوتية الضيقة، وثقافة القرون الوسطى قادرة على إيجاد تصور سليم لعلاقة الإنسان مع الله، ولم تستطع كذلك التعبير عن تصورات يمكنها تجاوز فكر العقليات الدينية التي رسخت بشكل قمعي أنماطها الفكرية القائمة على إقرار تصور واحد لتلك العلاقة، يقوم على منطق العبودية المطلقة، والقرارات الإلهية المقدّرة سلفاً، فحوّلت الله إلى إمبراطور مطلق يحكم دنيا البشر الفانية.
*المعرفة والحرية كلتاهما تستهدفان تمكين الإنسان قدرةً وفعاليةً تجعل للحياة هدفاً ومعنى وبالتالي تلتقيان في بناء نمط من القيم*
إذا كانت المعرفة في معناها البسيط هي الإدراك الجزئي لصور الأشياء، أو صفاتها، أو علاماتها، أو إدراك المعاني المجردة، سواء أكان لها وجود خارج الذهن أم لا، فالحرية هي القدرة على توظيف هذا التراكم الإدراكي وتفعليه في صورة أفعال توافق الإرادة الإنسانية وتحقق مراميها، وكلما زاد التراكم المعرفي ازداد الفعل الإنساني تحرراً من شتى القيود التي تعوق حركته، فالإنسان الأول الذي قلصت الطبيعة مساحة حريته، وجعلته عاجزاً في كثير من الأحوال عن تحقيق إرادته، يختلف عن إنسان العصور الوسطى الذي انطلق هنا وهناك يبني الإمبراطوريات ويعبر البحار الشاسعة، والذي بدوره يختلف عن إنسان العصر الحديث الذي انطلق يغزو الفضاء ويحلق في السموات بلا أجنحة.
إذاً، فالإنسان على حالته الأولى لا يمكنه تجاوز قدراته الموجودة في بنيته، لكن ذلك العقل الذي تتنامى قدراته الإدراكية، تمكن بمرور الزمان من تحويل طاقاته الإبداعية وأفكاره التي تتجاوز قدرات جسده إلى واقع ملموس من خلال المعرفة، فتمكن من تحرير جسده من محدودية الأفعال المخلوقة في بنيته، ومن سطوة قوانين الطبيعة عليه، فحلّق في أجواز الفضاء رغماً عن قوانين الجاذبية، دون أن يفقدها مفعولها، لكنها المعرفة التي مكنته من اختراع آلاتٍ تمكّن بها من التعامل مع تلك القوانين والفكاك من سطوتها عليه، فارتقى لأعلى المرتفعات، وغاص إلى أعماق سحيقة في البحار والمحيطات، وقطع آلاف الأميال في ساعات. بل وتؤكد النظريات العلمية أنّ تطور العقل من الناحية التشريحية تلازم مع تطور الوعي، وهو ما يؤكد أنّ العلاقة بين المعرفة والحرية علاقة تلازمية لا يمكن إنكارها، وهو ما يجعل من العبث القول بحاكمية مقولات العصور الغابرة ومنظومتها الأخلاقية على مقولات الحداثة وما بعدها، فأخلاق الماضي تنتمي للماضي وحده من حيث التفاصيل، ولا يمكن لها كبح جماح المعرفة الحديثة التي تؤسس لحرية مطلقة، والمعرفة والحرية كلتاهما تستهدفان تمكين الإنسان قدرةً وفعاليةً تجعل للحياة هدفاً ومعنى، وبالتالي تلتقيان في بناء نمط من القيم والمعاني الأخلاقية القائمة على مبدأ وحدة العقل والمعقول، والتأكيد أنّ العلاقة بين الله والإنسان تتسم بالحرية، وهي حرية دافعها أخلاقي في المقام الأول؛ فالمعرفة والحرية ماهيتان مختلفتان بطبيعة الحال، لا يمكن احتواء إحداهما وإقصاء الأخرى، لكنّ هناك علاقة تفاعلية دائمة تدمجهما معاً في مزاوجة تنتج في نهاية الأمر موجوداً بشريّاً فاعلاً ومشاركاً في أحداث الحياة، لديه كلّ هذا الحضور والنشاط الحر مع كل ما يقابل ذلك من مسؤولية كاملة.
نقلا عن حفريات