أشرف منصور
كاتب مصري
لا شك أنّ رجال الدين يمثلون سلطة في العالم الإسلامي، على امتداد تاريخه، وهي سلطة على عقول وقلوب الناس، وعلى أدق تفاصيل حياتهم اليومية، وهي كذلك سلطة موازية للسلطة المدنية التي هي سلطة الدولة، فمن أين حصلوا على هذه السلطة؟ وكيف تكونت؟ وما هي عناصرها وآليات عملها؟
يسيطر البعض على العامة بابتكار مصطلح “رجال الدين”، وهم لا يفضلون هذا الاسم لدلالاته السلبية التي يعرفونها جيداً، ولذلك يفضلون اسم “علماء الدين”، لكن المعنى واحد.
إنّهم يحاولون إخفاء ما يحوزون عليه من سلطة تجعل منهم كهنوتاً داخل الدين والمجتمع المسلم بالتخفي تحت كلمة “علماء”، وهي الكلمة المخففة التي تدل على أنّ الدين علم مثله مثل أي علم آخر، ولما كان علماً فهو في حاجة إلى “علماء”؛ أي فئة متخصصة فيه تستبعد غيرها وتحتكر المعرفة الدينية ونتاجها الذي هو الفتوى والتفسير. وإلحاق العلم والتخصص والأهلية بفئةٍ ما يسحب من غيرها على نحو تلقائي أي قدرة على القول أو الرأي الديني، ويجعل المعرفة الدينية حكراً في أيدي هذه الفئة وحدها.
قد تكون هذه السيطرة مفهومة في عصور سابقة، نظراً لانتشار الأمية وندرة التعليم الذي كان قاصرة على أعداد معدودة من أعضاء الطبقات الموسرة؛ حيث كان رجل الدين هو المتعلم وسط محيط أمّيّ، والممتلك لناصية العلوم الدينية التي أساسها اللغة والتفسير والفقه.
لكن غير المفهوم هو استمرار سيطرة رجال الدين في عصر الحداثة وبعد انتشار التعليم وشيوع الثقافة وإتاحة المعرفة الدينية في المجال العام من خلال الطباعة وامتلاء المكتبات بالكتب التراثية وغيرها؛ فليس هناك أي شيء يمنع المثقف من التبحر في المعارف الدينية بمجرد قراءته للكتب التراثية، وما “علماء الدين” سوى أشخاص قرأوا ودرسوا نفس هذه الكتب المنتشرة والمتاحة للجميع الآن، لكن لم تسهم هذه الظواهر الجديدة في كسر احتكار رجال الدين للمعرفة الدينية؛ لأنّ سلطتهم معترف بها اجتماعياً، بل وسياسياً من الدولة، ونظراً لتقديم أنفسهم على أنّهم حماة الدين والقائمين عليه، الأوصياء عليه وعلى الناس، وحفظة التراث الديني وحملة الدين الممثلون له المتحدثون بإسمه.
كل هذه التوصيفات تجعل منهم كهنوتاً لا شك فيه، وهو ليس كهنوتاً وظيفياً تراتبياً مثلما نجد في المسيحية الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، بل كهنوت يجد أساسه من النصوص التراثية، تلك النصوص التي تكون ملكية خاصة لهم من حيث التفسير والتوظيف الفقهي؛ أي من حيث الحراسة والحماية والاحتكار.
يستند رجال الدين على بعض العناصر لتدعيم سلطتهم، وهي الحاضرة بوضوح في النص القرآني، ومنها: السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صحيح أنّ هذين المبدأين عبارة عن وصيتين قرآنيتين، إلا أنّهما في السياق القرآني لا يعنيان أبداً تكوين فئة خاصة من الناس تتولى فرض السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إنّ الدلالة القرآنية أن يكونا عامَّين شائعين بين المسلمين، والخطورة هي في احتكارهما في أيدي فئة ما، تفرض السمع والطاعة لها، وتتولى هي وحدها الأمر والنهي.
واللافت للنظر أنّ الآية الكريمة التي ورد فيها الأمر الصريح بالطاعة لا تدل أبداً على طاعة رجال دين، فهي تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء 59).
الآية توصي بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، وأولو الأمر هم الحكام، مما يعني أنّ رجال الدين ليس لهم وضع في هذه الوصية، وتوصية الآية بطاعة أولي الأمر نابعة من حال عرب شبه الجزيرة وقت الدعوة المحمدية، فهم لم يكونوا خاضعين لسلطة دولة مركزية، ولم يجمعهم نظام سياسي واحد، وعودتهم حياتهم في الصحراء على عدم الانقياد لأحد، وكان هذا طبيعياً فيهم نظراً لافتقادهم حياة الاستقرار وعيشهم في حالة من التنقل الدائم في الصحاري؛ وقد قال عنهم ابن خلدون إنّهم “أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة؛ فقلما تجتمع أهواؤهم” بسبب “التحاسد والتنافس”.
وبذلك كانت اللّبنة الأولى في النظام السياسي الذي يمكن أن ينشأ فيهم هي الطاعة لأولى الأمر، ولم يكن من الممكن أن تنشأ فيهم هذه الطاعة إلا بأمر ديني صريح ومباشر في القرآن نفسه؛ إذن الطاعة في القرآن هي لأولى الأمر من الحكام المدنيين لافتقاد العرب لسلطة جامعة ونظام سياسي معترف به ومستقر؛ ولم تكن أبداً طاعة لما سوف يُسمى بعد ذلك برجال/ علماء الدين.
لكن يعمل رجال الدين على نقل الوصية القرآنية بالطاعة لأولي الأمر المدنيين إليهم هم أنفسهم كقائمين على الدين، ونقل الوصية القرآنية بالسمع والطاعة إلى سمع وطاعة لأوامر رجال الدين، وهذا ما يمثل نقلاً غير مشروع لمبدأ الطاعة من مجاله الأصلي إلى مجال آخر غريب عنه، ولم يكن مقصوداً في النص القرآني وهو مجال السلطة الدينية لرجال/ علماء الدين.
وعلاوة على ذلك فإنّ رجال/ علماء الدين يستغلون مبدأ الترغيب والترهيب كآلية للسيطرة على العامة، الموظف في الأصل لأهداف معينة في النص القرآني كلها أخلاقية، منها التنبيه والتحذير من فعل السيئات، والتشجيع والتحبيب على فعل الخيرات. فهم يقلدون الطرائق القرآنية ويوظفونها لبث الطمع والخوف في نفوس الناس، وهما من الانفعالات البشرية البدائية البعيدة عن التعقل والتوسط والاعتدال.
كما يتم استغلال الشعور الأصلي بالخطيئة وعقدة الذنب والخوف من الوقوع في المحظور والرغبة الأصلية في نيل الرضا والرحمة والمغفرة، أو الخلاص، فيصير الوعد بهذه الأشياء وضمانها حكراً في يد رجال/ علماء الدين، ويتعاملون معها على أنّهم هم وحدهم المسؤولون عن توزيعها على الناس.
ويحول توزيع الوعد والضمان بالخلاص، أو الرحمة والمغفرة وتخليص الناس من عقدة الذنب وإيلام الضمير، إلى “سلع دينية”، وهي كما قال عالم الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002)، سلعاً رمزية تصنع “رأس مال رمزي” Symbolic Capital، يكون حكراً في يد فئة حصرية مغلقة على نفسها تتولى إنتاجه وتوزيعه. وبذلك يصير رجال الدين هم حَمَلة رأس المال الديني، الرمزي في طبيعته، المحتكرين له والمالكين الحصريين، القائمين وحدهم على إنتاجه وتوزيعه، ويشكلون سلطة ثانية موازية للسلطة المدنية، منافِسَة لها ومنازٍعَة، مما يهيئ لكل احتمالات الصدام معها. وغالباً ما تكون السلطة السياسية المدنية ضعيفة تجاه تلك السلطة الموازية لرجال الدين، نظراً لسيطرتهم على العامة، طالما ظلوا “عامة” غير قادرة على التفكير لنفسها والاستقلال برأيها وبالقدرة على تنظيم شؤونها لشخصية بنفسها.
إنّ مجرد وجود فئة تدعي لنفسها التخصص في الدين وتحتكر لنفسها إنتاج المعرفة الدينية على نحو حصري وسري وإقصائي لمن سواها، هو الذي يخلق فئة من العامة العاجزة المعتمدة في أدق شؤون حياتها على من يحتكر توزيع السلع الدينية، أهمها الفتوى والوعد بالخلاص.
لكن التفقه في الدين ليس في حاجة إلى متخصصين، فيكفي أن نقرأ وندرس الكتب التي درسوها وادعوا منها أنّهم متخصصون، التخصص أو بالأحرى الإيهام به واستغلاله، والمتاجرة به هو احتكار للدين وسيطرة على العامة، وهو ما يشكل عقبة أمام بناء أي شخصية مستقلة.
نقلاً عن حفريات