إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
“ألا لله الدين الخالص” يشكل التديّن بما هو حالة روحية فردية وعلاقة خاصة بين الإنسان والخالق؛ الجزء الرئيسي والغالب من النصوص الدينية، أن يكون الإنسان قادراً على فهم الكون والحياة وإنشاء علاقته معهما في سلام، وفي ذلك فإنّ الدين في فكرته الأساسية أنّه رسالة الله تعالى إلى الإنسان بما هو فرد مستقل ومسؤول عن معتقداته وأفعاله، يجد فيها ما يبحث عنه أو يحاول أن يجد ما يتطلع إليه من سلام وحكمة.
لكن، ولشديد الأسف، تعرّضت هذه الفكرة الأساسية للدين إلى الإهمال والتحريف، وهيمنت على ممارسة الدين وفهمه وتطبيقه توقعات إنسانية ومؤسسية مسبقة، مثل؛ التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للناس، وشرعنة السلطة والهيمنة السياسية، والحشد للحروب والصراعات..، وسواء كانت هذا التوقعات صحيحة أو خاطئة، فإنّ دمجها بالدين ألحق ضرراً بالغاً بفهم الدين وببواعث وحوافز التنظيم الاجتماعي والسياسي للأمم، ذلك أنّه وببساطة تستمد الأفكار الدينية وجودها ومبرراتها من احتياجات وتطلعات وأشواق روحية ومعرفية خالصة للفرد، بما هو فرد مفكر وحر ومسؤول عن علاقته بالكون وخالقه.
أما التنظيم الاجتماعي والسياسي فإنّه يستمد وجوده ومبرراته من المصالح الاقتصادية والاجتماعية الجماعية للدول والمجتمعات، صحيح أنّها عمليات ضرورية ومهمة لكنها يجب أن تظل محكومة بالمعرفة والاجتهادات الإنسانية بما هي إنسانية محكومة حتماً بالخطأ والصواب، والعقل والضمير والأهواء والمصالح والتجارب .. وبما أنها كذلك يجب ألا تكون مقدسة أو روحية، لكنها عمليات إنسانية يجب أن تخضع على نحو متواصل للمراجعة والتصحيح والتغيير والتطوير،… وأما الفكرة الدينية المقدسة فإنّها ثابتة لا تتغير وغير قابلة للتغير، هكذا لا يمكن تنظيم المتغير بالثابت، كما لا يمكن إقحام المتغير في الثابت.
والأخلاق أيضاً مستقلة عن الدين، وإن كان يعززها، لكن ربطها بالدين يعطل فكرتها الأساسية الجميلة كونها مستمدة من ضمير الإنسان، وبما هي تقدير والتزام عقلاني بفعل الصواب وتجنب الخطأ بدون حافز مادي أو قانوني أو ديني (لا تكون أخلاقاً بغير هذين الشرطين) وفي ذلك فإنّها برغم سموّها وجمالها وأهميتها، محكومة بشروط إنسانية وأرضية، فلا يتوقع أن تتشكل إلا في ظل وفرة اقتصادية ومعيشية؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يرتقي بذاته إلا بتجاوز عتبة البقاء وما يهدد وجوده.
وبالطبع فإنّ دور العقلانية الاجتماعية والأخلاقية أن تخرج الإنسان من أوهام الندرة والبقاء والتهديد؛ لأنه من الممكن أن يظل أسيراً لها في مشاعره ومعتقداته حتى مع الوفرة المادية.
وهكذا فإنّ الاخلاق هي تجاوز الخوف؛ فالكرم مثلاً هو تجاوز الخوف من الجوع أو الفقر أو الحاجة، والشجاعة هي تجاوز الخوف من الموت، والمحبة والتسامح هي تجاوز الشعور بالتهديد، وفي المقابل فإنّ البخل والجبن والكراهية صفات تعكس الخوف.
هكذا تتشكل الأخلاق مرتبطة أساساً بحياة الإنسان وظروفه المادية والمعيشية، ففي مجتمعات الصيد مثلاً يتكرس التضامن لمجموعات الصيد؛ لأنه بدونه تتعرض المجموعة للفشل أو الفناء، وفي الوقت نفسه فإنّ الفرد قد يكون قرباناً لتظل المجموعة في سلام، لكن في مجتمعات الرعي يحل التعاون محل التضامن، على النحو الذي يترك مساحات للاختيار والانتماء بقدر حاجة الأفراد والجماعات لبعضها، أما المجتمعات الزراعية التي أسست للحضارة الإنسانية السائدة، فإنّ التنظيم الاجتماعي والأخلاقي مستمد من حقائق الاستقرار والعلاقة بالمكان؛ ما يعزز القوانين والمؤسسات السياسية الاجتماعية الراسخة والفاعلة.
لكن وفي جميع الأحوال يظل الفرد في كل المجتمعات والظروف يصوغ علاقته بالسماء على نحو دائم ومتواصل بما يقوده إلى السلام.
لقد كان التدين في المجتمعات الإسلامية قبل موجة “الإسلام السياسي” يغلب عليه طابع الخصوصية والسرية، والشعور بأنّ التدين عندما يخرج من هذا الإطار يكون عرضة للرياء والإفساد، فكان المتدين يبذل جهده في ألا يعرف أحد من الناس شيئاً عن عباداته وأفعاله الدينية التي يتقرب بها إلى الله تعالى، باعتبار أنّ السلوك الديني إذا عرفه أحد غير الله تعالى يلحق به ذلك ضرراً يفسده أو يحبطه.
وربما كان مبتدأ السرية في طوائف دينية قائمة اليوم سلوكاً روحياً يجعل التدين فردياً وسرياً ليس لأهداف وأسباب أمنية أو سياسية، ولكن لحمايته من الرياء أو للحفاظ عليه من التلف والتلوث، وربما، وللسبب نفسه، كان الذهاب الى المساجد بالنسبة لمعظم الناس يقتصر على يوم الجمعة أو الأحد، ويقتصر الذهاب اليومي المنتظم على فئة قليلة تأخذ دوراً روحياً واجتماعياً.
ثم تحولت السرية مع الزمن إلى طقوس مقصودة لذاتها، وتحولت الجماعات إلى طوائف متميزة، وفي الصراع السياسي والديني صارت السرية ضرورة أمنية وحياتية وشخصية، ولأجل حمايتها وتكريسها تحولت إلى فقه وثقافة، وأنشئ لتكريسها فهم وتفسير للنصوص الدينية والتراثية.
ويضاف إلى ذلك أنّ السرية كانت ضرورة مهنية واقتصادية في شرق المتوسط، ففي هذه المنطقة كانت معظم موارد الناس وحياتهم تقوم على المهارات الفنية والتنظيمية والمعرفية، ذلك أنّ المناخ وتقلّباته وندرة المياه جعلت الأرض لا تكفي الناس مباشرة لغذائهم أكثر من أربعة شهور في العام، وكان عليهم لأجل البقاء أحياء ولأجل الحصول على الدفء ثمانية أشهر أخرى من غير موارد مباشرة للغذاء والدفء أن يديروا مواردهم وحياتهم بطريقة إبداعية، فكانت الصناعات الغذائية والتخزين والإبحار والملح والزيت والنبيذ والنار والكتابة والمقايضة والري،… ولكن لأجل حمايتها جعلوها سراً ولأجل تكريس السرّ وحمايته حُوِّل إلى عقيدة وثقافة، وما نزال نقول أسرار الصنعة.
وحتى لا يصرف الاستطراد عن الفكرة الرئيسية فإن التدين يكون خالصاً وجميلاً بقدر ما لا تكون في ذلك منفعة؛ صغرت أو كبرت ولأجل ذلك يظل فردياً وسرياً لا يشعر به أحد سوى صاحبه وخالقه، وإن تجاوز ذلك تحول إلى سلطة وتجارة.
نقلاً عن حفريات