علي الصراف
يحشو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسدسه بالمزيد من الطلقات. ذلك ما تفعله لعبة “الروليت الروسية”، عندما يتضاعف الرهان. وهي تضع الخاسر أمام تحد أصعب دائما. فإذا أفلت من رصاصة واحدة، وضاعف الرهان، وُضعت له في “بكرة” المسدس رصاصتان، فثالثة.
هذه اللعبة أكثر وحشية من رهانات “الروليت” العادية. فقد يضع المقامر مالا على حزمة أرقام، فيضاعف ما وضعه إذا خسر، أملا بمكسب تصنعه الصدفة. في النهاية، لا يوجد مسدس. ولكن المقامر قد يرمي نفسه من الطابق العاشر، إذا وجد نفسه قد غامر بكل شيء.
ديميتري ميدفيديف المتحدث باسم الرعب النووي الروسي، مارس التهديد النووي من أول اللعبة. كان يعرف أن بلاده تخوض في لعبة قمار خاسرة. إلا أنه اختار، منذ البدء، حشو “البكرة” المؤلفة من سبع طلقات، بسبع طلقات، قائلا لحلفاء أوكرانيا الغربيين: سأضع مسدسا في رؤوسكم، والآخر في رأس روسيا، ونطلق النار معا.
وهو لم يكف عن ذلك، حتى بعد أن اجتمعت كل قناعات الكرة الأرضية، بما فيها الصين، على أن السلاح النووي ليس خيارا. ولكنه ظل عاجزا عن النظر إلى شيء غير بكرة المسدس.
◙ روسيا كانت تستطيع أن تكسب وضعا إستراتيجيا أفضل لو أنها لم تشن الحرب فعلا. ولكنها حشدت الحشود ليس من أجل التهديد بها لكسب المفاوضات، وإنما من أجل شن الهجوم بصرف النظر عن أي فرص دبلوماسية
السلاح النووي ليس لعبة قمار. إنه لعبة دمار شامل. وتريد روسيا أن تُقنع العالم بأنها يجب أن تبقى تحتل أراضي أوكرانيا، وإلا فإن “النهاية النووية” للعالم هي التي سوف تحل.
ما من مسؤول، في أي مكان على سطح الأرض، يمكنه الرضوخ لهذا النوع من التهديد. لأن منطقه أعوج. والعالم لا يمكن أن يستقيم على منطق أعوج. ذلك لأن مَنْ يهددك بالنووي الآن، من أجل قطعة أرض، فإنه سيعود ليفعل، من أجل قطعة أرض أخرى.
والرجل يهذي. وكلما فتح فمه خرجت منه أفكار غبية. آخرها كان “تقاسم أوكرانيا” بين روسيا والاتحاد الأوروبي. نسي تماما أن روسيا وقعت، إلى جانب بريطانيا والولايات المتحدة في العام 1994، ما يُعرف بـ “مذكرة بودابست” التي تضمن أمن وسيادة أوكرانيا على أراضيها مقابل قيامها بتسليم مخزونات أسلحتها النووية إلى روسيا. مسح قفاه بهذه المذكرة، لكي يتيح لنفسه أن يهذي.
لو جاز لهذا النوع من الهذيان أن يكون هو المنطق السائد، فسوف يكون من المعقول “تقاسم روسيا” بين الصين والاتحاد الأوروبي. هذا أقرب إلى الواقع الذي تصنعه روسيا بنفسها. وحيث إنها أكبر بلد في العالم من حيث المساحة، فإن تقسيمها ينطوي على منطق أعقل بكثير من المنطق الذي يقف وراء أطماعها التوسعية في أراضي الغير.
المسألة ليست مجرد مسألة مصالح، أو منازعات قوة. إنها مسألة سلوك عدواني يزداد وحشية، كلما ثبت أنه خاسر أكثر.
غني عن القول إن روسيا كانت تستطيع أن تكسب وضعا إستراتيجيا أفضل لو أنها لم تشن الحرب فعلا. ولكنها حشدت الحشود ليس من أجل التهديد بها لكسب المفاوضات، وإنما من أجل شن الهجوم بصرف النظر عن أي فرص دبلوماسية ربما كانت متاحة قبل فبراير من العام الماضي.
اندفعت كالأعمى إلى هذا الطريق، لسبب صنعته بنفسها من قبل أن تبدأ الحرب. سبب صدرت من أجله عدة كتب. ووقف وراءه “منظرون”، واحتشد من حوله الأنصار والرعاع والغوغاء والهمج مثل يفغيني بريغوجين مؤسس مجموعة فاغنر، لتغذية دوافع الغزو وأطماعه التوسعية.
كان هناك مقدار جلي من الأحقاد المسبقة ضد أوكرانيا تتضح معالمه في الترويج الدعائي الروسي لتبرير حرب لم يجر إعدادها من أجل مكاسب تتعلق بالتوازنات الإستراتيجية بين روسيا والأطلسي، ولكن من أجل ضم أوكرانيا، بوصفها جزءا من مجد الإمبراطورية الروسية الغابرة.
◙ كان يمكن لروسيا أن تكسب أوكرانيا بمئة طريقة أخرى، إلا الحرب. فخسرت وظلت تضاعف الرهان، وتحشو المسدس
القول إن روسيا لا يجب أن تُهزم، لأنها قوة نووية، هو نفسه قول أحمق. روسيا النووية هُزمت في أفغانستان على الأقل. وليست روسيا وحدها هي القوة النووية التي أمكن هزيمتها. الولايات المتحدة هزمت في فيتنام كما هزمت عسكريا في أفغانستان والعراق. ولم يكن سلاحها النووي خيارا يمكن العودة إليه.
التجربة اليتيمة في هيروشيما، كانت تجربة أولى وأخيرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة رغم كل ما لحق بها من هزائم.
قد تسأل لماذا؟ الجواب: ليس لأن الخيار النووي عمل وحشي، بحد ذاته فحسب، بل لأن المعارك الخاسرة يمكن كسبها بوسائل أخرى أيضا. مما يجعل التراجع عن حمى المقامرة، عملا ناضجا.
ميدفيديف يرى ويعرف تماما، كما كشف في مقابلته الأخيرة، أن الغرب لا يأبه بتهديداته النووية.
سأله المراسل “من وجهة نظركم، ما مدى حقيقة تهديداتكم بحدوث نهاية عالم نووية؟ وهل تعتبرون أن الناتو ينظر بجدية إلى هذه التهديدات؟”.
فقال “سأبدأ بالجزء الثاني من سؤالكم. الناتو لا ينظر بجدية إلى هذا السيناريو. وإلا لما قام بتسليم هذه الأسلحة الخطيرة إلى نظام كييف. يبدو أنهم يعتبرون أن الحرب النووية أو نهاية العالم النووية مستحيلتان لأنهما غير واردتيْن إطلاقا. إنهم مخطئون. وفي لحظة ما يمكن أن تسير الأحداث وفق سيناريو مختلف تماما، وسيتحمل حلف شمال الأطلسي المسؤولية بشكل كامل”.
الناتو، في الواقع، ينظر بجدية للتهديدات النووية الروسية. ولكنه لا يملك القدرة على التراجع أمامها. دمار العالم دفعة واحدة، أفضل بكثير من دماره عن طريق التنازل أمام منطق أعوج، محموم، وحقود أو أعمى.
لم يخض النازيون حروبهم في أوروبا، إلا بمنطق من هذا النوع. وهُزموا به.
◙ السلاح النووي ليس لعبة قمار. إنه لعبة دمار شامل. وتريد روسيا أن تُقنع العالم بأنها يجب أن تبقى تحتل أراضي أوكرانيا، وإلا فإن “النهاية النووية” للعالم هي التي سوف تحل
الرهانات المضاعفة في الحرب، تعني إفلاس السياسة. كما تعني إفلاس الثقة بالمستقبل.
والحال، فإنه ما من هزيمة تدوم إلى الأبد. وما من خسارة لا يمكن تعويضها، إذا ما استدرك المرء قدرته على تصويب الفشل.
وفي الواقع، فقد كان يمكن لروسيا أن تكسب أوكرانيا بمئة طريقة أخرى، إلا الحرب. فخسرت وظلت تضاعف الرهان، وتحشو المسدس.
الحياة برمتها لعبة نجاح وفشل. يمكن للمرء أن يخسر المرة تلو المرة. وهو قد يخسر ويكرر الخسارة، لأنه لم يعرف السبب. ولكن يكفي نجاح واحد، بمنطق سليم، ليعوض كل الخسائر. ساعتها سوف تتضاءل قيمة النجاح نفسه أمام المنطق الذي قاد إليه. أو بمعنى آخر، أمام معادلة الحياة التي جعلته ممكنا.
الفشل معادلة صمم وعمى عن الأسباب والحقائق، بينما النجاح معادلة تصويب وبصيرة.
الولايات المتحدة لم تتحول إلى قوة عالمية مهيمنة فعلا إلا عندما قبلت هزيمتها في فيتنام. انظر في تفاصيل مكانتها الاقتصادية منذ العام 1973، وسترى كيف تحولت الهزيمة في مكان إلى تفوق في مكان آخر. هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان فعلت الشيء نفسه بالنسبة إلى روسيا. أنقذها التجديد الاقتصادي من السقوط تحت براثن الفقر والإفلاس، حتى تولى فلاديمير بوتين السلطة، ليحلم باستعادة أمجاد إمبراطورية لا تمتلك روسيا من مقوماتها إلا المسدس. فلما خاض المقامرة في أوكرانيا تركه لمحموم مثل ميدفيديف لكي يلوح به كلما زادت الخسائر.