أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
عرّف علماء الاجتماع مفهوم الهوية على أنّه فهم الأفراد لأنفسهم وما يعتقدون أنّه مهم في حياتهم. ويتشكل هذا الفهم انطلاقاً من خصائص محددة تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة، وقد حدّد العلماء مصادر الهوية بالجنوسة والتوجه الجنسي والجنسية، والطبقة الاجتماعية والمنطلقات الإثنية، كما أنّهم توصلوا إلى تقسيم الهوية إلى نوعين: الهوية الذاتية، والهوية الاجتماعية، وهما مترابطتان ترابطاً وثيقاً لا يمكن فصل أحدهما عن الأخرى.
*لكلّ هوية مسوغات تجعل الفرد يتمسك بالانتماء إليها، تلك المسوغات تصنعها الأنظمة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية*
من خلال التعريف السابق يمكننا القول إنّ معرفة الهوية تقتضي بالضرورة معرفة الذات البشرية الفردية وتقديرها، وبناءها، وتدلّ الذات البشرية على مجموعة خصائص طبيعية فيزيولوجياً، وخصائص نفسية مكتسبة تفرضها الظروف المحيطة بالفرد، إمّا أن تجعل منه فرداً فاعلاً ومتفاعلاً، وإمّا أن تطمس هويته وتلغي وجوده، وهذه الخصائص هي التي تعبّر عن جوهر الهوية وماهيتها. فالذات الفردية الحرة والمستقلة، والمعترف بها من قبل الدولة، قادرة على تأسيس مجتمع ديمقراطي حر ومستقل، وذات روابط متماسكة ومتكاملة، كفيلة بتحقيق العدالة والمساواة.
فالعلاقة بين الذات والهوية علاقة تبادلية، تتحقق كل منهما بوجود الأخرى، الفكر الحر يعبّر عن ذات حرة ووجود مستقل: “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، تدلنا مقولة “ديكارت” هذه على ارتباط الذات بالوجود، ويمكن أن نستخلص منها أهمية تطابق الهوية والذات.
تماهت المجتمعات المتخلفة مع الهويات الحصرية، الدينية والمذهبية والإثنية، الحزبية العقائدية والجهوية، وهي؛ أي الهويات الحصرية أو “الهويات القاتلة”، حسب تعبير “أمين معلوف”، هويات ضيقة ومغلقة، متنازعة ومتنافرة، تؤدي إلى تفكيك الروابط بين أفراد المجتمع، الذي يفترض أن يكون مبنياً على الثقة والتعاون والمحبة وعدم التمييز وقبول الآخر، وتمنع الانفتاح على الهوية الإنسانية التي هي المعيار الأساسي للهوية الوطنية، وتعمّق الشعور بالاغتراب، وعدم الثقة بالآخر، وتطمس تلك الهويات الهوية الوطنية التي تفضي بدورها إلى الهوية الإنسانية.
لكن لكلّ هوية مسوغات تجعل الفرد يتمسك بالانتماء إليها، تلك المسوغات تصنعها الأنظمة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، ومن ثمّ، فعندما يحقق النظام السياسي مسوغات الهوية الوطنية بأركانها الثلاثة: الحرية والعدالة والمساواة، تنتفي الهويات الحصرية ويتحقق الاندماج الاجتماعي بدلاً من التعايش السلبي بين مكونات المجتمع الواحد، وينتفي أيضاً مفهوم الأكثريات والأقليات، الذي أصبح شعاراً ترفعه الأنظمة السياسية في البلدان المتخلفة بكل صراحة ووضوح، كما يحصل في سوريا الآن وقبل نصف قرن من الزمن، وكما يحصل في الانتخابات البرلمانية في لبنان، المقاعد البرلمانية تتبع للطائفة بحسب وزنها الديني وثقلها السياسي.
دعا عالم السياسة الأمريكي “ألكسندر ونت” في كتابه “النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية” إلى خلق هوية “فوق وطنية”، وعرّفها على أنّها “خلط مميّز من هويات الدور وهويات النوع؛ هوية ذات قوة سببية تحفز الفاعلين ليعرفوا رفاهية الآخر وخيره، بوصفها جزءاً من رفاهية الذات وخيرها، تحفزهم على أن يكونوا مؤثرين ومتأثرين”، ثم يذهب إلى موضوعية الاعتماد المتبادل وكثافته؛ وليس ذاتيته، فيتساعد الأفراد المتفاعلون من كافة الانتماءات القومية على تشكيل هوية جماعية تكفل القيم والمبادئ الإنسانية، وتكون تلك الهوية فوق كلّ اعتبار وطني أو ديني أو قومي أو سياسي؛ فالهوية الإنسانية تحقق التقدم الاجتماعي وتساهم في تطور المجتمعات في كافة مجالات الحياة، وتفتح مجالاً واسعاً للعدالة الإنسانية والحرية والمساواة، من دون التمييز بين الإنسان الأبيض والأسود، أو الإنسان الغربي والإنسان الشرقي.
قد يكون تفكير “ونت” بالهوية فوق الوطنية تفكيراً طوباوياً، وتأييدنا له كذلك الأمر، لكنّ الطموح إلى الارتقاء بالإنسان إلى مستوى الإنسانية يجعلنا نسعى إلى ذلك، إلى عالم خالٍ من العنف بكافة أشكاله “الرمزية والمادية والنفسية”، وخالٍ من الاستبداد القائم حالياً في المجتمعات المتخلفة، وإلى سيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية على المستويين؛ السياسي والاجتماعي، وتحقيق التوازن الاقتصادي وتناسب دخل الفرد واستهلاكه وقدرته على الادخار، والقضاء على البطالة المتفشية في تلك المجتمعات.
وثمّة من يرى أنّ الهوية الإنسانية هي الهوية الجذرية الثابتة والدائمة للفرد والمجتمع والأمّة، وما عداها هويات فرعية، تكتسب قيمتها الأخلاقية من الجذر الإنساني؛ أي من الهوية الإنسانية، وإلا لن تكون سوى هويات عنصرية قاتلة، بتعبير أمين معلوف. الهوية الإنسانية هي التي تتأسس عليها المساواة في الكرامة الإنسانية، وفي الحقوق المدنية والسياسية والالتزامات القانونية، بين الأفراد عموماً وبين النساء والرجال خصوصاً، وهي التي تجعل الهوية الوطنية ممكنة، ومنفتحة على أفق إنساني. فإنّ التعصب القومي (الوطني) هو تعبير عن ضمور الجذر الإنساني في هوية الفرد والمجتمع والأمّة وجفافه.
*الهوية الإنسانية تحقق التقدم الاجتماعي وتساهم في تطور المجتمعات في كافة مجالات الحياة، وتفتح مجالاً واسعاً للعدالة الإنسانية والحرية والمساواة*
إذا أخذنا بعين الاعتبار الدول الأوروبية وما أنتجته القوانين الوضعية بما يخصّ الهوية الوطنية، فهي تتفق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، في حفظ الكرامة الإنسانية واحترام الحريات العامة والخاصة، لذلك يكون انتماء الفرد والمجتمع إلى الدولة أعمق وأقوى، وتلك القوانين والأنظمة منحت الإنسان الوافد حق الجنسية بعد دخوله إلى أراضيها بـ5 سنوات، فيكون مواطناً يتمتع بحقوق المواطنة التي يتمتع بها الفرد الأوروبيّ الأصل، وعليه ما على المواطن الأصلي من واجبات، بغضّ النظر عن عرقه أو دينه أو جنسه، ناهيك عن تساوي حقوق المرأة المدنية والسياسية بحقوق الرجل، وأهمّها منح الجنسية لأطفالها. في اعتقادنا أنّ تلك القوانين والأنظمة هي بعينها الهوية الوطنية، إن لم نقل الهوية فوق الوطنية.
الحرب السورية الدائرة بين السوريين منذ 10 سنوات كانت انفجاراً هزّ المجتمع السوري، فأظهر ما كان خافياً، أو بالأحرى ما كان مخفياً قسراً، من تعصّب ممنهج وتخلف مقصود أنتجته السلطة في تهميش فئة من المجتمع وتفضيل فئة أخرى، فقد طفا على السطح ما كان في القاع من عصبيات إثنية ودينية تطوّرت إلى عصبيات طائفية فعائلية، وإيديولوجيات سياسية ترفض الآخر وتجعله مختلفاً، وما يجري الآن في لبنان والعراق واليمن وليبيا من صراعات طائفية، هي هدر مقصود وممنهج للهوية الوطنية وهدر متعمّد للإنسانية جمعاء.
فهل تصحو المجتمعات في تلك البلدان إلى حقوقها الإنسانية لاستعادة هويتها الضائعة؟
نقلاً عن حفريات