أحمد القاضي
يتأثر العقل المعاصر بأفكار حول الحفاظ على البيئة وكيف اكتسبت تلك المفاهيم عنصر التنفيذ في السنوات الأخيرة، فمع ظهور ثورة التصنيع في أوروبا ظهرت مشكلات وتلوث ألم بالبيئة وغيّر في خصائصها فكان الحل في وضع مواثيق واتفاقيات دولية تحد من ذلك المخاطر.
لكن ما خفي عن كثيرين أن الحضارة الإسلامية كانت لها السبق في الاهتمام بمكونات الحياة من حولنا، حتى إن الوثائق التاريخية تذكر أن الدولة العثمانية وسلطانها سلطان القانوني كان أول من أصدر ميثاق «حماية البيئة» وتم تعميمه على الولايات والمدن التي يحكمها العثمانيون في عام 1539، وأرفق معها قائمة عقوبات لمن يخالف القانون في خطوة اعتبرت ثورة في زمانها لم يُعثر في أرشيف الأمم السابقة ما يتوافق معه.
كانت من بنود تلك الوثيقة عدم إلقاء القمامة بشكل عشوائي وتخصيص صناديق قمامة خاصة لتجميعها من قبل المختصين، وإيقاع العقوبة الشديدة بحق من يقوم بهذا الفعل وتُترك هوية العقوبة ونوعيتها إلى والي المدينة، الذي يجب عليه أيضًا التدقيق على مرور الصرف الصحي الناتج عن البيوت والحمامات العامة من طرق خاصة بعيدة عن المواطنين للمحافظة على صحة المواطنين والبيئة، كما يجب على الوالي منع سكب الأدوات الطبية المستخدمة في العلاجات في خطوط الصرف الصحي بل دفنها في مناطق فارغة بعيدة عن حياة الرعايا.
تصميم المدن بمعايير بيئية سليمة
تلك الإجراءات لم تبدأها الدولة العثمانية دون تاريخ سابق ارتبط بين الدولة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين والحفاظ على البيئة ومحاربة التلوث، ظهر ذلك في بناء المدن واختيار المكان المناسب لذلك فكانت له شروط تضمن لأهل المدينة الحياة الصحية، يدل على ذلك ما وضعه الفقيه البغدادي ابن أبي الربيع في كتابه الذي كتبه للخليفة العباسي المعتصم، محددًا له ستة شروطا لاختيار مواقع المدن هي: توفر المياه العذبة، وجود الطعام المستمر، اعتدال المكان وجودة الهواء، القرب من المراعي والاحتطاب، تحصين المنازل من الأعداء، أن تحيط بها أرض زراعية تعين أهلها.[1]
تعليمات الفقيه العباسي كانت مُترجمة على الواقع في بناء عدة مدن لعل أشهرها عاصمة الدولة بغداد، فحينما عزم المنصور على بنائها استدعى جمع ممن يسكن نحوها ليسألهم عن حالها وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام فأخبره كل منهم بما عنده، حتى كانت بغداد التي اشتهرت بين المدن في أمور كثيرة منها «طيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها وصحَّة ربيعها وخريفها».[2]
تلك القواعد طبقها المعماريون المسلمون في تصميم المدن والبيوت قديمًا، بواسطة توجيه أماكن الصناعات التي تبعث بالدخان والروائح الكريهة خارج المدن، كما رُوعي في تصميم البيوت توفير بيئة سليمة للسكان بسبب الاهتمام بفتحات تهوية تضمن دخول هواء متجدد ووصول الشمس لأركان المنزل.[3]
وإمعانًا في توفير بيئة صحية للعيش اشتهرت الولايات الإسلامية في عصورها بانتشار الحدائق والزهور بها، فكان المعتصم مهتمًا بزراعة الحدائق والبساتين في العاصمة الجديدة للدولة في بغداد بجانب حديقته الشهيرة في سامراء.
لإعطاء أمثلة على توزع الحدائق على المدن الإسلامية، وصف الجغرافيون الأوائل مدينة البصرة حيث تتقاطع القنوات عبر الحدائق والبساتين.
يُقال أيضًا إن في دمشق 110 آلاف من الحدائق حتى تحولت النباتات إلى عنصر أساسي في فِنَاء المنزل في سوريا حيث يساعد توافرها على تبريد وترطيب الجو الداخلي؛ كما كانت الفسطاط في مصر بها آلاف الحدائق الخاصة؛ في شمال أفريقيا سواء في تونس، الجزائر ومراكش، كانت معالمها لا تبرز بشكل واضح لخضرتها.
تنقية المياه وتحسين الصرف الصحي
ولأهمية المياه بشكل أساسي في حياة الإنسان، اهتمت الحضارة الإسلامية بإقامة السدود للحفاظ على المياه الفائضة فقد بنى الأمويون سدودًا على الأنهار لمنع الفيضانات وتأمين المياه، والآبار العميقة لتوفير إمدادات المياه، وشيدوا قنوات وشبكات تحويل المياه للسماح بالوصول إلى المدن والأراضي الزراعية البعيدة، كما استخدموا نظام القنوات الجوفية لجلب المياه من طبقة المياه الجوفية البعيدة، كذلك تنظيف القنوات بشكل موسمي.
إقامة السدود ظهر دورها الحيوي في توفير المياه للبلدات والمدن وري الأراضي الجافة، والسيطرة على الفيضانات كانت له أهمية سبقت فيها الحضارة الإسلامية حضارات سابقة من خلال ربط تدفق المياه بتوليد الطاقة، فكانت نقطة انطلاق لمفهوم الطاقة المتجددة، تم استخدام تلك الطرق لزيادة معدلات تدفق التيار الذي يعمل على تشغيل المطاحن وبذلك زيادة الإنتاجية، في خوزستان تم تركيب الطواحين في أنفاق مقطوعة عبر الصخور على جانبي القناة.
مثال آخر هو سد في دزفول وهي بلدة في إيران، الذي تم استخدامه لتوفير الطاقة لتشغيل ساقية بقطر خمسين ذراعًا، تزود عن طريقها جميع منازل البلدة بالمياه، كما تميزت الحضارة وعلماؤها بدراسة كتب السابقين والعمل على تطوير تعقيم المياه إلى درجة دفعت الكاتب الإنجليزي فرانسيس بيكون إلى اقتباس طريقة العالم العباسي أبي بكر الرازي لتصفية الماء العكر من الشوائب، التي تمثلت في «وضع الماء في إناء فخاري، ووضع قصبة مشقوقة في الأعلى، ثم ضع فوقها صوفًا من الصوف النقي المغسول. ثم يتم تسخين الماء قليلاً، ويتم عصر الصوف عندما يبتل بالبخار».[4]
وإمعانًا في تحقيق شروط النظافة وضمان الوقاية من أمراض تسببه المخلفات نشط المسلمون في العصور الوسطى على الجانب الوظيفي للصرف الصحي، يدل على ذلك حال المدن الإسلامية في العصور الوسطى مثل بغداد، قرطبة، فاس المغربية والفسطاط وما امتلكته من أنظمة متطورة للتخلص من النفايات والصرف الصحي مع شبكات مترابطة من المجاري.
كذلك عُرف في مدينة الفسطاط نظام صرف متكون من مبان سكنية متعددة الطوابق مع مراحيض متدفقة متصلة بنظام إمداد المياه، التي كانت تتدفق من كل طابق تحمل النفايات إلى قنوات تحت الأرض.[5]
وبعدما اتخذ المسلمون طرقًا لتصريف مياه الأمطار عن أسطح البيوت، فإنهم عالجوا أيضًا مشكلة تجمُّع هذه المياه ونحوها في الطرقات بأساليب تدخل عمومًا في إجراءات «الصرف الصحي»؛ تحدث السمهودي مؤرخًا عن مشكلة تجمُّع مياه المطر بالمدينة المنورة، ذاكرًا وجود حفر يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار تجتمع حول المسجد وتملأ تلك الحفر، فكان الحل حفر طريقًا لتلك الحفر التي عند أبواب المسجد ، وإيصالها بالمجرى الذي يسير فيه القذر فكانت طريقة لصرف المياه.[6]
المنهج الطبي المرتبط بسلامة البيئة
الاهتمام المُلّح بالبيئة في الدولة الإسلامية تم بشكل علمي وتنافس العلماء في ربط الظروف المناخية بالصحة العامة، لعل أشهر من كتب باستفاضة في تلك النقاط كان محمد الرازي، مؤلف الموسوعات الطبية المهتمة بالبيئة كعامل من عوامل الصحة الجيدة، كرّس لها عدة أطروحات، مثل: رسالة عن الزكام المزمن عند تفتح الورود، وسبب قتل الرياح الحارة لمعظم الحيوانات.
كذلك كتب قسطًا بن لوقا الطبيب المعروف التي تتضمن جزءًا من كتاباته الطبية اهتمامًا واضحًا بقضايا البيئة، بخاصة ما كتبه كدليل صحي للمسافر كُتِب خصيصًا للحُجاج إلى مكة، يخصص سببين للأمراض المنتشرة: الهواء المحيط، والعدوى، حتى إنه يربط عدوى التلوث البيئي بقوله:
تلك الكتابات لم تكن وليدة أفكار فردية ولكن العقل الجمعي في تلك الحقبة كان يؤيد تلك الحقائق، حتى إن إحدى السمات الأكثر لفتًا للانتباه في المستشفيات الإسلامية في تلك الحقبة هي أنه يتم تبريد الهواء في المستشفيات عن طريق توفير المياه، ما يعني أن هناك وعيًا بأهمية جودة الهواء خصوصًا بالنسبة للمرضى الذين يعانون ظروفًا صحية أضعف من غيرهم.
حقوق الحيوان
مفهوم العناية بالبيئة والحفاظ على مكوناتها لا يستقيم دون تقديم الرعاية إلى عنصر الحيوان داخلها بخاصة وللإنسان الخلافة في الأرض وله دور في مراعاة بقية الكائنات، وهو ما لم تغفله الحضارة الإسلامية في تاريخها حيث كانت تعاليم الإسلام تحبب الإحسان إلى الحيوان فكانت القطط تعيش بين الناس وتدخل المساجد بحرية، وكان في دمشق وقف للقطط تأكل منه وتنام فيه.
تلك الممارسات نالت ملاحظة الكتاب الغربيين حتى وصف لوبون الفرنسي العصور الوسطى للدولة الإسلامية بشيوع رعاية الكلاب والقطط والطيور وجميع الحيوانات الأخرى في عالم الحيوان، كانت الطيور تطير بحرية داخل المساجد وهي إلى ذلك أقامت أعشاشها بالقرب من المسجد دون التعرض لأذى.
كما لاحظ الرحالة الفرنسي ثيفنوت أن صدقة العثمانيين امتدت إلى الحيوانات والطيور، في أيام السوق يشتري الكثير من الناس الطيور بغرض إطلاق سراحهم. وأشار أيضًا إلى أن الناس يتركون أيضًا ثروة هائلة لإطعام القطط والكلاب؛ قد يعطي البعض المال للخبازين أو الجزارين لهذا الغرض الخيري.
الدولة مُمثلة في حكامها كانت ترى ضرورة متابعة تعامل الرعايا مع حيواناتهم، فقد ورد عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى مدير السكك ألا يسمحوا لأحد بإلجام الدابة بلجام ثقيل، كما أمر في مصر ألا تحمل البعير أكثر من ستمائة رطل وألزم الشرطي أن يمنع تحميل البعير ما لا تطق أو تتعرض للأذى.
وقد عرفت الحضارة الإسلامية أوقافًا خاصة للطب البيطري ورعاية الحيوانات المريضة، أخرى للحيوانات المُسِنَّة. ونجد في عصور المماليك والعثمانيين كثيرًا من المنشآت التي تخصصت في رعاية الحيوانات، وقد اهتم القائمون عليها بإبراز تلك المنشآت في أماكن مميزة للدواب بخاصة في مداخل المدن حتى يتسنى للتجار والمارين سقي حيواناتهم، مثل حوض الدواب الذي أوقفه السلطان قايتباي في الصحراء؛ لتشرب الدواب في أثناء سيرها وتستريح في أماكن بعيدة عن الشمس، وتعالج إذا أُصيبت في العيادة المرتبطة بالحوض.
كما كان متعارفًا أن يحصل أصحاب تلك الوظائف من الأطباء البيطريين والمسئولين عن إطعام الحيوانات وتطبيبهم على رواتب من ربح أراض زراعية موقوفة لهذا الغرض.
المصدر “إضاءات”