موسى برهومة
كاتب أردني
يضطر الكاتب، أحياناً، إلى مديح البذاءة، وإلى الرفع من شأن كلّ ما يخدش الحياء العام، كما يتصوّره أدعياء الفضيلة المزعومون الذين يفعل أغلبهم “السبعة وذمتها” ثم يأتي ليكّفر عن انفصاماته وخطاياه بهجاء فيلم أو مسلسل أو رواية أو عمل فنيّ.
“البذاءة” أو ما اصطلح هؤلاء على تسميته كذلك هي ابنة السياق. من هنا تبدأ المحاكمة، وبهذا المعيار يتمّ قراءة الأعمال الإبداعيّة.
أشاهد أفلاماً، وهذه عادة تكاد تكون شبه يوميّة، فأرى في بعضها أنّ الجنس والمشاهد الساخنة مقحَمة على السياق. هذا أمر خادش للوعي، بلا ريب، أكثر من كونه خادشاً للحياء، لأنّ صاحب العمل لم يحترم عقل المشاهد، ولم يوقّر ذائقته.
*الفضيلة أمرٌ نسبيّ لا يحقّ لأحد احتكاره، أو أن يزعم أنّه يمتلك “الروشيتة” أو “الكتالوج” السحريين لجعل مجتمع فاضلاً أو فاسقاً*
بهذه المسطرة يمكن تقييم الأعمال، وليس بأيّة مسطرة معياريّة أخرى؛ دينيّة كانت أم اجتماعيّة، لا سيما أنّ الفنّ والأدب في أغلب تعبيراتهما هما فنّ النخبة، لأنّ من يستمع إلى مفتتح العمل الأوبرالي “الهولنديّ الطائر” (The Flying Dutchman) للموسيقار الألماني فاغنر، الذي غيّر وجه الأوبرا في العالم، سيعتبر أنّ ما يستمع إليه محض ضجيج يعقبه سكون يبعث كلاهما على السأم، لأنّه لا يملك الخبرة الموسيقيّة التي تؤهّله على الحكم، وهذا ينسحب على جلّ الآراء و”التعليقات” التي تمتدح أو تهجو بلا مرجعيّة.
الفضيلة أمرٌ نسبيّ لا يحقّ لأحد احتكاره، أو أن يزعم أنّه يمتلك “الروشيتة” أو “الكتالوج” السحريين لجعل مجتمع فاضلاً أو فاسقاً. والذين يتعلّقون بالتفاصيل الصغيرة “الهامشيّة” ويحاكمون الأعمال في ضوئها، وينسون أو يتغافلون عن المتن، هم أشخاص فقيرو الخيال، أو أفراد مؤدلجون يعتبرون شتم عمل فنيّ أو أدبيّ جهاداً في سبيل الله.
بعض الاتهامات الموجهة لأعمال فنية مثقلة بحمولة دينية وفيها قدْر غير يسير من التحليل والتحريم. وإذا أضفنا إلى ذلك كله أنّ بعض هذا التأثيم قد يصدرعن مرجعيات دينية، فإنّ القضية تتخذ مساراً آخر. الأمر أضحى يتعدّى الذائقة الفنية المتنازَع عليها، ويذهب إلى التصنيف الديني الذي قد يُخرج المستهدَف به من خانة الدين، ويقذف به إلى العراء. وفي العراء، كما يعرف العالِمون، سهام وترويع وذبح وتفريق للزوج عن زوجه (قانون الحسبة يطل برأسه)، وأقله الحصار الضاري للحرية الشخصية وتهديدها المستمر.
الرقابة الفنية على النصوص الفنية والإبداعية بمرجعيات دينية أمر خطير، فالمؤسسة الدينية، أو هكذا ينبغي أن تكون، ليست وسيطاً يربط الإنسان بالسماء، ولا يتعين لها أن تمارس هذا الدور، بعد أن سقطت “صكوك الغفران” بقرار الكنيسة ذاتها التي شعرت أنّ العقل الديني هو بالأساس عقل فردي تقوم فعاليته على الاختيار الحر، وكلما اتسع نطاق الحرية صار الإيمان والتدبر في شؤون الكون أكثر فسحة. أليس هذا مطمحَ الأديان؟
نقلاً عن حفريات