كريتر نت – متابعات
انشغل الغرب بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا ومحاولة إنقاذها من الغزو، لكنه تناسى -وفق ما يؤكده محللون- الاهتمام بالتحديات المتزايدة القادمة من الصين وبقية القوى الكبرى التي باتت تهدد نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في مختلف مناطق العالم.
ومع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الخامس عشر بلا سقف واضح لما يمكن أن تؤول إليه نتائجها، صارت تلك الحرب أقرب إلى المنافسة الشرسة بين القوى الكبرى.
ويقول هال براندز أستاذ كرسي هنري كيسنجر للشؤون العالمية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء إن “الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا أثارت منذ بدايتها سؤالين إستراتيجيين أساسيين :
أولا: هل ستبقى أوكرانيا دولة مستقلة؟
ثانيا: هل يستخدم العالم الديمقراطي الحرب بحكمة استعدادا للمخاطر الأكثر جسامة في قادم الأيام؟”.
وهو يرى أنه بعد خمسة عشر شهرا من الحرب، ومع بدء الهجوم المضاد الذي طال انتظاره في أوكرانيا، يمكننا أن نكون واثقين بحذر في الإجابة عن السؤال الأول.
وما لم يتم التخلي عن أوكرانيا ببساطة من قبل داعميها الغربيين، فإنها ستخرج من هذا الصراع مدمرة بشكل رهيب وليست مهزومة.
ومع ذلك، يمكن القول إن السؤال الثاني أكثر أهمية لمستقبل النظام العالمي، والإجابة أقل تأكيدا إلى حد كبير. وتشير التعبيرات المأثورة الحقيقية إلى أن الأزمات توفر فرصا وتحديات على حد السواء، حيث يمكنها إخراج الدول من سباتها الإستراتيجي واختراق الإنكار المستمر للتهديدات التي تلوح في الأفق.
ويقول براندز “خلال الحرب الباردة كانت الحرب الساخنة في كوريا هي الأزمة التي جعلت العالم حرا. وأقنع الغزو الصادم وغير المبرر لدولة ذات سيادة الغرب بالتخلي عن نهج غير جيد للاحتواء وصياغة الدرع العسكرية التي من شأنها أن تبقي الاتحاد السوفييتي تحت السيطرة.
واحتاجت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى هزة مماثلة قبل فبراير 2022”.
وكانت الولايات المتحدة ملتزمة خطابيا لعدة سنوات بخوض منافسة قوى عظمى مثل الصين وروسيا. ولكن فيما يتعلق بقضايا، تمتد من مجال الدفاع إلى مجال التجارة، كافحت لتجميع السياسات اللازمة للتنافس بفاعلية.
وفي أوروبا كانت ألمانيا ودول أخرى تزيد في إدمانها على الطاقة الروسية.
وفي آسيا كانت اليابان وتايوان، من بين أماكن أخرى، تسلكان نهجا لا هوادة فيه لتسليح نفسيهما استعدادا لصراع محتمل مع بكين.
وتغير ذلك لفترة من الوقت، مع هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا.
وكان الغزو هجوما شبيها بهجوم كوريا على معايير العالم المتحضر.
لقد كان تذكيرا بأن منافسة القوى الكبرى يمكن أن تتحول بسرعة إلى صراع عنيف. وكانت مأساة أوكرانيا بمثابة تحذير للعالم الحر.
وبحسب براندز، استجابت واشنطن وحلفاؤها لهذا التحذير من خلال استنزاف روسيا في أكثر الحروب بالوكالة فتكا في القرن الحادي والعشرين.
لقد قدموا لأوكرانيا الدعم الذي تحتاجه لإنقاذ نفسها وتدمير جيش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه العملية.
وتسببت الحرب أيضا في تعزيز وتوسيع حلف شمال الأطلسي، حيث سعت فنلندا والسويد إلى الانضمام إلى الحلف وتعهدت الدول في جميع أنحاء أوروبا بزيادة الإنفاق العسكري بشكل كبير.
كما أنتج الصراع، إلى جانب أسوأ أزمة تخص تايوان منذ ربع قرن، موقفا أكثر تشددا تجاه الصين.
وفرضت الولايات المتحدة وعدد قليل من الحلفاء عقوبات تقطع بكين عن أشباه الموصلات المتطورة والمدخلات اللازمة لصنعها، وهي طلقة مدمرة محتملة في الحرب الباردة التكنولوجية الجارية.
ووضعت اليابان خططا لمضاعفة الإنفاق الدفاعي تقريبا على مدى نصف عقد. واقتربت الدول في غرب المحيط الهادئ من واشنطن ومن بعضها البعض. وبدلا من تقسيم الغرب، أدت الحرب إلى تقوية التحالفات على هوامش أوراسيا.
ومع ذلك، كانت هذه الخطوات مجرد دفعات أولى في إستراتيجية كاملة لحماية العالم الديمقراطي من الافتراس الاستبدادي. ومن مفارقات التاريخ أن الحاجة الملحة إلى صياغة هذه الإستراتيجية تلاشت إثر تمسك أوكرانيا بموقفها.
وفي ألمانيا، سعى المستشار أولاف شولتس إلى التملص من وعد سابق بإنفاق 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على شؤون الدفاع. وقد تسارعت استعدادات تايوان للدفاع عن النفس، لكنها لم تسلح نفسها بعد بالسرعة التي يتوقعها المرء من بلد في خطر وجودي.
وقد تعيد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى العام المقبل حزب الكومينتانج -الذي يفضل اتباع موقف أكثر ليونة تجاه بكين- إلى السلطة وقد يبطئ الاستعدادات العسكرية لتايوان.
ويقول براندز “إذا كان الحلفاء الخاملون جزءا من المشكلة، فإن أداء واشنطن في بعض الحالات ليس أفضل”.
والواقع أن اتفاق سقف الدين الأخير يخفض الإنفاق الدفاعي بالقيمة الحقيقية، وهو عمل من أعمال الجنون الإستراتيجي في وقت يرتفع فيه خطر نشوب حرب في غرب المحيط الهادئ بشكل واضح.
ويبدو من المرجح أن يكون الأمر التنفيذي الذي طال انتظاره بشأن الاستثمار الأميركي في الصين -أو بعبارة أخرى بشأن تمويل أميركا للشركات التي تساعد الجيش الصيني على الاستعداد للحرب- متواضعا في نطاقه وتأثيره.
كما أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تفعل الكثير لسد أكبر ثغرة في إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين، ألا وهي الافتقار إلى أي شيء يمكن مقارنته بالشراكة عبر المحيط الهادئ.
وكان الهدف من الصفقة التجارية، التي نشطتها الولايات المتحدة ثم تخلت عنها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، تعزيز النمو الاقتصادي في آسيا وإعطاء اقتصادات المنطقة بديلا عن الاعتماد على بكين.
وبعد انسحاب الولايات المتحدة شكلت الأطراف الـ11 الأخرى منظمة تسمى “الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة العابرة للمحيط الهادئ”، ومن المفارقات أن الصين تقدمت بطلب للحصول على العضوية.
لكن براندز يقول “ليست كل الأخبار سيئة على أية حال؛ فبولندا تعمل على تحويل نفسها إلى قوة عسكرية كبرى، والتي من شأنها أن ترسخ التحالف المناهض لروسيا في أوروبا الشرقية لسنوات قادمة.
إن الالتزام الأخير من جانب مجموعة السبع بمكافحة الإكراه الاقتصادي الصيني بشكل جماعي أمر مرحب به، حتى ولو كان ما قد ينشأ بالفعل لا يزال غير مؤكد. ولكن إذا كانت هناك مجالات يتم فيها إحراز تقدم حقيقي، فهناك مجالات كثيرة جدا أدى التسرّع فيها إلى إفساح المجال لممارسة الأعمال ونشاط السياسة والبيروقراطية كالمعتاد”.
وتلك ليست طريقة للاستفادة من أزمة، أو للفوز في المنافسة على مستقبل النظام العالمي. لقد منحت الحرب في أوكرانيا الديمقراطيات فرصة لاستباق التحديات الوشيكة من الصين كاظمة الغيظ وروسيا المولعة بالقتال، وقد لا تحصل على فرصة أخرى.