برحيل التشكيلي اليمني الكبير عبد الجبار نعمان (26 يناير الماضي) خسر الفن التشكيلي اليمني واحدًا من أهم رواده، وممن أسهموا في التأسيس لحضور هذا الفن في الحياة الثقافية اليمنية، بل تكاد تكون لوحاته وجدارياته المعلقة في أروقة مؤسسات الدولة والمنظمات الدولية في صنعاء، منذ عقود، هي أول اعتراف حكومي ومؤسسي في اليمن بالفن التشكيلي.
عشق نعمان (1948-2019) الفن التشكيلي منذ طفولته من خلال ممارسته الشغوفة للرسم… ولنا في حكاية لقائه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، خلال زيارة الأخير لليمن عام 1964، ما يدلل على البداية المبكرة لهذا الفنان، وثلاثية الشغف والمعاناة والإصرار على المضي قُدمًا في درب هذا الفن.. لقد كان ذلك اللقاء مائزًا، حصل خلاله نعمان على منحة من الرئيس ناصر لدراسة الفن التشكيلي في القاهرة.
ذهب نعمان إلى القاهرة، وهو ما زال فتًى لم يكمل تعليمه الإعدادي حينها، وعندما تقدّم لكلية الفنون الجميلة فوجئ بأنها تشترط حصول المتقدم على الثانوية العامة؛ فما كان من الرئيس ناصر سوى أن وجه بإلحاقه بكلية ليوناردو الإيطالية في العباسية.. فالتحق بها نعمان وبدأ حينها تجربته مع التأهيل العلمي في مواكبة لاشتغاله المتواصل على اللوحة؛ ليقيم أول معارضه في العام التالي في القاهرة عام 1965م، في مستهل تجربته مع المعارض التي نظم منها، خلال امتداد تجربته الفنية، أربعين معرضًا شخصيًّا.
بعد تخرجه في كلية ليوناردو في القاهرة التحق نعمان بعددٍ من الدورات في إيطاليا.. وفي مستهل السبعينيات استأنف نعمان تجربته في اليمن عقب عودته، وبدأ ينتهج مسارًا خاصًّا به منذ تلك البدايات في علاقة متفردة بهذا الفن وبواقع بلاده؛ فبدأ يشتغل على واقعيته التقليدية، لتكون مرحلته الأولى في هذا الفن؛ وهي المرحلة التي انتقل منها، لاحقًا، إلى الرومانسية، وأنجز فيها عددًا من الأعمال، ليتجاوزها في مرحلة مختلفة إلى التعبيرية، ولعل ذلك التحول كان في تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأ في استنطاق خصائص التراث اليمني وفق رؤية مختلفة تعيد اكتشاف الجمال الحقيقي للمنظور.. ولعل تلك المرحلة قد مثلت بداية التحول الحقيقي الذي شهدته تجربته، وتبلورت عنها مرحلة جديدة وأكثر تطورًا، وهو ما قدمته لوحته في معرض «سماء من البنفسج»، الذي أُقيم على رواق بيت الثقافة في صنعاء عام 2006م، وقدّم خلاله مستوى مختلفًا من اللوحة المركّبة من أكثر من منظر في هندسة شكلية للمنظور يتوازى معها معالجة لونية جريئة عكست مدى عمق الرؤية واتساعها في اشتغال تجريدي تعبيري عن الواقع، الذي طالما ارتبط به نعمان على مدى تجربته الفنية التي تواصلت لأكثر من خمسة عقود.
في معرضه الأخير الذي أقيم في غاليري صنعاء عام 2016م باسم “بنات القمر” قدّم نعمان فيه تجربة جديدة في سياق لوحته الجديدة التي قدمها معرضه السابق، متميزًا فيه باشتغال على مستوى مختلف في علاقته بالمعالجة اللونية لموضوعات أعاد فيها قراءة مدى عشقه لليمن ومدى ارتباطه بالهُوية من خلال تجسيد نصوص بصرية تتمحور في مراكزها عناصر نسوية اختزل فيها جمال وخصوصية بلاده.. كما أكد، من خلالها، مدى احتفائه بالحياة وتمسكه بالجمال والبهجة.. على الرغم من أنه قدّم ذلك المعرض، وهو يعاني عددًا من الأمراض علاوة على ما تعانيه بلاده من حرب وحصار وضيق عيش.
وبرحيله يكون الفن التشكيلي اليمنيّ قد خسر أحد أهم رواده وصاحب تجربة تشكيلية يمنية رائدة تُمثّل مدرسة فنية ستبقى منهلاً للأجيال.