إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
نشأ الإسلام السياسي استجابة لمرحلة الدولة المركزية الحديثة، ويواجه اليوم تحدّيين اثنين كبيرين وجذريين على الأقل؛ أحدهما ذاتي، وهو انتهاء مبرر وجوده، والثاني التحديات التي تواجهها الدولة المركزية نفسها؛ بسبب التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية اليوم وتغير جذري في العلاقات والمكونات المنشئة للأمم والدول.
أنشأ حسن البنا رواية بسيطة هي استئناف الخلافة الإسلامية التي توقفت عام 1924، لكنّ سيد قطب تخيل رواية أكثر تعقيداً وغموضاً ورومانسية، وعلى نحو يبدو غير متوقع كان هذا الغموض والتعقيد عاملاً أساسياً في تماسك الجماعات وقدرتها على التضامن والتضحية لأجل الفكرة الوهمية. يقول فيورباخ: “إنّ الحاجة إلى المعجزات يسبق الإيمان بها”.
يقول سيد قطب: إنّ وجود الأمّة المسلمة يُعتبر قد انقطع من قرون كثيرة، ولا بدّ من إعادة وجود هذه الأمّة؛ فالعالم اليوم يعيش كله في “جاهلية”، ونحن اليوم في جاهلية مثل التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية،… تصورات الناس وعقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم، وثقافتهم وفنونهم وآدابهم، وشرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير ممّا نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً، هو كذلك من صنع الجاهلية، ولأجل ذلك لا بدّ لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي، والتصورات الجاهلية، والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية، في خاصة نفوسنا، وإنّ أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته، وألّا نعدّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي في منتصف الطريق، كلا! إنّنا وإيّاه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإنّنا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق.
*يواجه الإسلام السياسي اليوم تحدّيين اثنين كبيرين وجذريين على الأقل؛ أحدهما ذاتي، وهو انتهاء مبرر وجوده، والثاني التحديات التي تواجهها الدولة المركزية نفسها*
ويكون الجهاد في سبيل الله لأجل إقامة “مملكة الله في الأرض” التي لا تقوم إلّا بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردّ الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة، ولذلك فإنّ كل قتال دفاعاً عن أوطان أو صدّ عدوان عليها ليس جهاداً، فلا جهاد إلّا لأجل تحرير الإنسان بردّه إلى عبودية الله، التي هي اتّباع ما أمر الله، ويدخل في العبادة التشريع، فالذين يتبعون مشرّعين من دون الله إنّما يعبدونهم،… وحيثما وجد التجمع الإسلامي الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإنّ الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام،… وإذا كفّ الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ.
أرجّح أنّ هذا المصطلح “مملكة الله في الأرض” الذي لم يُستخدم من قبل هو إعادة إنتاج للمفهوم المثالي الهيغلي في فلسفة الدين، الذي تصور أنّ الوحي الإلهي يحلّ فيما ينشئه المؤمنون لأجل استدعائه وحضوره من الفنون والعمارة والموسيقى، لكنّ سيد قطب تخيل هذه المملكة تقوم على رومانسية مأساوية مستمدة من الكمال والمثال المتخيلين في نموذج الصحابة “جيل قرآني فريد”، ولمّا كان المثال والكمال “الهيغلي” مستمدّاً من الكون والطبيعة، فقد اكتسب أفقاً لا نهائياً، ولا يمكن الوصول إليه على نحو يدفع دائماً للإبداع والتأمل والبحث والمراجعة، لكنّ “الكمال” القطبي كان نموذجاً محدوداً يمكن تخيله وفهمه وتقديره، وهذه هي كارثة الإسلام السياسي.
ما هو المجتمع الجاهلي؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته؟ يتساءل سيد قطب، ويجيب: إنّ المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم، وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا إنّه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده، متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية، وبهذا التعريف الموضوعي تدخل فعلاً في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض. تدخل فيه المجتمعات الشيوعية، والوثنية التي ما زالت قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقيا، والمجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً،… وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنّها مسلمة.
فالأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة، والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة وليست غامضة،… أن يكون مصدر السلطات هو الله ـ سبحانه ـ لا (الشعب)، ولا (الحزب)، ولا أيّ من البشر.
*في قدرة سيد قطب على استيعاب النازية والفاشية وتقديمها في صياغة دينية، وفي لغة أدبية بديعة ومدهشة، تحولت الجماعات وأفكارها إلى كتل هادرة ومندفعة إلى الموت في حماس ومتعة لا نظير لها في التاريخ والجغرافيا*
وفي المقابل، فإنّ المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يطبّق فيه الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظاماً وخلقاً وسلوكاً، ويمتد ذلك إلى الثقافة والفنون والمعارف الإنسانية والاجتماعية، وليس من مجال للتلقي في الحضارة والثقافة عن غير الله،… يمكن ذلك في العلوم البحتة والتقنية…، فشريعة الله تعني كلّ ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد وأصول الحكم وأصول الأخلاق وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً. ويجد سيد قطب أنّ اتجاهات الفلسفة بجملتها واتجاهات تفسير التاريخ الإنساني بجملتها، واتجاهات علم النفس بجملتها، ومباحث الأخلاق بجملتها، واتجاهات دراسة الأديان المقارنة بجملتها، واتجاهات التفسيرات والمذاهب الاجتماعية بجملتها،… كلها في الفكر الجاهلي، أي غير الإسلامي، قديماً وحديثاً، متأثرة تأثراً مباشراً بتصورات اعتقادية جاهلية، وقائمة على هذه التصورات، ومعظمها إن لم يكن جميعها يتضمن في أصوله المنهجية عداء ظاهراً أو خفياً للتصور الديني جملة وللتصور الإسلامي على وجه خاص.
ليست وظيفة الإسلام، كما يقول سيد قطب، أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان؛ فالإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإمّا إسلام، وإمّا جاهلية!
هذا الفكر ألهم جماعات الإسلام السياسي والأجيال المقبلة على الدين، والتي تشعر بالهزيمة والانكسار والفشل، ومنحها شعوراً بالتميز والاستعلاء، وفي قدرة سيد قطب على استيعاب النازية والفاشية وتقديمها في صياغة دينية، وفي لغة أدبية بديعة ومدهشة، تحولت الجماعات وأفكارها إلى كتل هادرة ومندفعة إلى الموت في حماس ومتعة لا نظير لها في التاريخ والجغرافيا.
نقلاً عن حفريات