جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
يجمع الكتاب والفلاسفة المعاصرون، وبعض القدماء، ممن ليس لهم “ثأر بايت” عند النساء، أنّ المرأة شريك أساسي للرجل في إنتاج الحياة، وتمتاز عليه بحفظ الحياة وتنميتها وحمايتها والدفاع عنها، ونشدان السلامة والأمان والرفاهية والسعادة لأجنّتها وأولادها وبناتها؛ إذ الرجل الصائد والغازي والمحارب والرب الغضوب، “رب الأسرة”، وسيد العبيد ومالك الإماء والجواري، وأمير “الغزوات الليلية”، والحاكم المستبد ..، مبددٌ، والمرأةُ حافظة.
هذه الحقيقة الوجودية (الأنطولوجية) المؤيدة بيولوجياً ونفسياً ضائعة في ثنايا التاريخ ومطموسة تحت ركامه، منذ تحولت المرأة إلى موضوع لمتعة “المحارب” وأداة للإنجاب، ومادة للسلطة و”شرفاً” للقبيلة، يكفيها عن الشرف، وسلعة للتبادل الاجتماعي بالمصاهرة.
هذا التحول جعل المرأة تستبطن العنف المبثوث في ثنايا الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، بوجه عام، وفي حياة العائلة بوجه خاص، وتفرغه على نفسها، بقدر ما تكره أنوثتها، وتتذمر منها، وتتعيَّب بها، ثم تفرغها على أولادها، وبناتها خاصة، ما جعلها تسترجل أو تتذكَّر؛ أي تتقمص شخصية الذكر، فتغدو قابلة لمارسة العنف، على اختلاف أشكاله ودرجاته، وتمارس بعض أشكاله تحت شعار المساواة. المرأة التي تقبل أن يمارس عليها أي شيء تصير قابلة لأن تعمل أي شيء، وكذلك الرجل. هذا هو أساس الإرهاب نسائياً كان أم رجالياً.
كنا قد نقدنا تجنيد النساء في الجيش، حتى إذا لم يكلَّفن بأعمال قتالية، على اعتبار الجيش مؤسسة ذكورية خالصة، لا تنتفي ذكوريتها بإدخال النساء إليها، ومدرسة للتربية على التوحش وممارسته، علاوة على الغباء، تتناقض مع الأنوثة تناقضاً تاماً، وكذلك أجهزة المخابرات، بخلاف الشرطة المدنية، إذا كانت غير مسلحة، حتى بأخف الأسلحة الفردية (المسدس).
وقد نبهتنا مقالة للكاتب المصري، منير أديب، في جريدة الشرق الأوسط (18 أيلول / سبتمبر، 2018) تحدث فيها عن ظاهرة “الإرهاب النسوي”، في سيناء، بمصر، إلى دور المرأة في إنتاج العنف وإعادة إنتاجه، ودورها في الجهاد الإرهابي أو الإرهاب الجهادي. وإذ نتحفظ على عنوان مقالة السيد أديب، نشاركه الرأي في انتشار هذه الظاهرة وتوسعها، في مصر وغيرها، وكانت منتشرة في بعض التنظيمات اليسارية “الثورية” أيضاً، القومية منها والاشتراكية، وقد شط التباهي، عندنا، ذات يوم، بالمناضلات والفدائيات والمظليات، ولا تزال الثقافة القومية، “الثورية”، تعيد إنتاج هذا التباهي وتسحضر بطلات من الماضي السحيق.
لم يعد خافياً لجوء الجماعات المسلحة إلى تجنيد الأطفال والنساء، لا لعوز في القوة البشرية، كما هي الحال لدى ميليشيات السلطة الغاصبة / المغصوبة في دمشق ومنظماتها الإرهابية، بل لما للنساء والأطفال، وللنساء خاصة من مزايا في العمل السري والاتصالات والرصد والاستطلاع والاستخبار والأعمال اللوجستية، وأخيراً في العمليات الانتحارية، التي تناقلت وسائل الإعلام عدداً منها، سواء في العراق والأردن وسوريا وغيرها، أو في البلدان الأوروبية.
ومع ذلك لا تنتفي الصفة الذكورية عن الإرهاب؛ لأن النساء والأطفال مجرد وسيلة من وسائله وأداة من أدواته. وقد أشار الكاتب منير أديب إلى لجوء الإخوان المسلمين إلى تجنيد النساء، ولا نعرف حقيقة الدور الذي قامت وتقوم به القبيسيات ومنظمات نسائية أخرى، في الشام.
بخلاف ما ذهب إليه السيد أديب، نعتقد أن أساس الظاهرة هو ممارسة السلطات الشمولية المستبدة وأجهزتها الأمنية في العالم العربي، نعني السلطات الحاكمة، ولا سيما في سوريا والعراق، وأجهزة الاستخبارات، التي توظف النساء، في معظم الدول. وقد بدأت هذه الظاهرة في سوريا، كما نعرف، أيامَ “المد القومي” الناصري، ثم البعثي؛ فقد عمدت مخابرات عبد الحميد السراج، في سوريا، إلى تجنيد جيش من النساء مخبراتٍ، غطى هذا الجيش السري جميع المدن والبلدات والقرى السورية، ثم ورثه نظام البعث وزاد عليه، بالتربية العقائدية في المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات، وزوده بأدلوجة “الدفاع عن الثورة ومكتسبات العمال والفلاحين والفئات الوسطى، والقضاء على الرجعية وعملاء الاستعمار وافمبريالية”.
وقد تسلمت بعض المخبرات مناصب مرموقة، مقابل خدماتهن الأمنية. (ليس لدينا أدلة على ذلك سوى سلطة الأجهزة الأمنية المطلقة في التوظيف والترقية أو الترفيع والنقل والتسريح .. إلخ، والأعمال الخاصة أيضاً، وممارساتها الفاقعة، بدواعي “الأمن القومي”.
وما يقال عن هذه السيدة أو تلك لا يعدو الأحكام الظنية، وكذلك الأمر في المخبرين، لأن تنظيم المخبرات والمخبرين من أكثر التنظيمات سرية). فقد جعل النظام الأمني، أو “الدولة الأمنية” حسب وصف الدكتور الطيب التيزيني، من معظم السوريات والسوريين إما مخبرات ومخبرين بالفعل وإما مخبرات ومخبرين بالقوة، كما جعل من معظمهم راشين ومرتشين. فهذا وذاك من مؤهبات العنف ومقدمات الإرهاب. الإخبار عن الأهل والجيران والأصدقاء والصديقات والزملاء والزميلات فعل عنف، لا يتورع فاعله أو فاعلته عن فعل أي شيء.
لذلك، نحسب أنّ الجماعات الإسلامية المسلحة، الإرهابية، قد استنسخت نموذج السلطات الحاكمة وأجهزتها السرية، (وما زلنا نعتقد أن هذه الجماعات هي الوجه الآخر لهذه السلطات)، فأنشأت لها تنظيمات نسائية سرية، واستقطبت مؤيدات، ومناصرات وداعيات، لا سيما أن النساء أسرع إلى تصديق الدعاة، والمشعوذين وتجار الجنة القيِّمين على خلاص النفوس، لأسباب ليس هنا مكان ذكرها ومناقشتها، واستعانت بالنساء المنظمات والمؤيدات والمتأثرات، لا سيما زوجات المجاهدين وقريباتهن وصديقاتهن .. في الدعاية والتبشير والترويج، وفي سائر الأعمال التي أتينا على ذكرها.
وإلى ذلك، نعتقد أن كسب النساء إلى جانب هذه الجماعات هو مما يضمن لها التوسع والاستمرار والديمومة، لما للنساء من أثر في التربية والتعليم والتوجيه.
ولا نرى سبيلاً للحد من هذه الظاهرة والقضاء عليها سوى ما سنسميه “تأنيث السياسة” معنىً ومغزى ومبدأً وغايةً، (إضافة إلى كونها مؤنثة لفظاً)، نعني أنسنة السياسة، وتغيير اتجاهها مما هو عليه، حتى اليوم، إلى حفظ الحياة عامة، والحياة الإنسانية خاصة، وتنميتها، ونشدان الأمن والسلام والرفاهية والرخاء والسعادة؛ فبتأنيثها تتحول السياسة من التبديد إلى الحفظ ومن التدمير إلى البناء ومن مجرد “القطف” إلى الزرع، ومن الاستغلال والظلم إلى العدل، فتجمع بين العقل (المذكر) والحكمة (المؤنثة).
ولا بد أن تتحول الجمعيات النسائية إلى منظمات نسوية فاعلة، تحفظ كرامة النساء والرجال، وتدافع عنها، على غرار المنظمات التونسية، وتسهم في تغيير مضمون السياسات واتجاهها، وتفرض رؤيتها الإنسانية على الحكومات بالوسائل والطرق السلمية. النساء النساء صانعات سلام، لا داعيات حرب ولا محاربات، أما النساء الرجال أو المسترجلات فأمرنا وأمرهن إلى الله.
نقلاً عن حفريات