جيمس دورسي
يتخبط العالم في مواجهة أزمة تلو الأخرى، بداية من التغير المناخي وديون الدول النامية وجائحة كوفيد – 19، إضافة إلى الحرب في أوكرانيا وأزمة تايوان، في مؤشرات على ترنح النظام العالمي. وفي حقيقة الأمر، لم تعد الكثير من الدول ملتزمة بالحفاظ على النظام العالمي الحالي، بما في ذلك تلك الدول المؤسسة له.
ولا تزال الهند التي احتضنت النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة واستفادت منه، عضواً مستاءً داخل هذا النظام. ويعتبر سعيها للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة أوضح مثال على رغبة الهند في الاضطلاع بدور أكبر في النظام الدولي، بما يتناسب مع ثقلها الاقتصادي والجيوسياسي.
وشكلت زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الولايات المتحدة نموذجا مصغرا لما سيبدو عليه النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين. وسلّطت الضوء على التعديلات التي تواجهها الولايات المتحدة في الانتقال من عالم أحادي القطب تهيمن عليه إلى عالم متعدد الأقطاب تتوزع فيه الهيمنة على ثلاث قوى كبرى (الولايات المتحدة والصين والهند) والعديد من القوى الوسطى التي تمتلك قدرة أكبر على رسم مساراتها المستقلة.
وتشمل هذه التعديلات حيوية السياسة الخارجية والدفاعية والأمنية الراسخة في التحالفات بدلا من الاتفاقات ذات التركيز الضيق والأطراف الصغيرة مثل مجموعة آي 2 يو 2 التي تضم الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والهند، أو اتفاقية أوكوس الثلاثية الأمنية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتقرر إنشاء مجموعة آي 2 يو 2 العام الماضي لتسهيل “الاستثمارات المشتركة والمبادرات الجديدة في مجالات المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي”.
وأكد مودي في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” هذا الأسبوع أن سعي الهند للحصول على مكانة قوة عظمى على أساس كونها أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وثالث أكبر اقتصاد بحلول عام 2030، لم يتضمن “استبدال أي دولة”.
وقال “نرى في العملية اكتساب الهند لمكانتها الصحيحة في العالم (…) أنا أول رئيس وزراء يولد في الهند الحرة. ولهذا السبب، أستخلص تفكيري وسلوكي وما أقوله وأفعله من خصائص بلدي وتقاليده”.
وجادل المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية ورئيس كرسي تاتا للشؤون الإستراتيجية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أشلي جاي تيليس بأن الهند والولايات المتحدة تختلفان بشأن ما يجب أن يشمله النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين.
وقال تيليس في مقال نشر مؤخرا في فورين أفيرز “ليس للهند أي ميل فطري للحفاظ على النظام الدولي الليبرالي ولها نفور دائم من الانخراط في منظومة دفاع مشترك. كما تسعى للحصول على تقنيات متقدمة من الولايات المتحدة لتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية (…) ولا تفترض أن تتطلب منها المساعدة الأميركية أي التزامات أخرى”.
وفي دعم لأقوال تيليس أشار المعلق الهندي البارز سي. رجا موهان إلى أن “الحجة الهندية حول الاستقلالية الإستراتيجية لا تعتمد سوى في التعاملات مع الولايات المتحدة (…) نادرا ما نسأل كيف سمحت نيودلهي بتطور الاعتماد الهائل وغير الصحي على الأسلحة الروسية عبر عقود رغم الحديث عن الاستقلالية الإستراتيجية”.
وينظر إلى مودي على نطاق واسع على أنه السياسي الأكثر شعبية في الهند والمتجذر في القومية الهندوسية مع سجله غير الليبرالي وتقويضه لحقوق الأقليات، وخاصة حقوق المسلمين الهنود البالغ عددهم 200 مليون نسمة والذين يشكلون أكبر أقلية مسلمة في العالم. ويواصل النضال بحزم لتشكيل النظام العالمي الذي يريد أن يراه. وتبقى هذه معركة صراع على السلطة بقدر ما هي معركة أفكار.
وأشار الباحثون غريغوريو بيتيزا وديريك بولتون وديفيد لويس في مقال صحفي حديث إلى أن “الأيديولوجيات تلعب دورا مركزيا في هيكلة الأنظمة الدولية بالإضافة إلى تكثّف الجهود الجماعية لتحديها وتحويلها”. وقالوا إن المتحدّين “يميلون إلى التنظّم حول المعتقدات والقيم البديلة”.
وفي مواجهة الإطار الذي حددته إدارة بايدن والذي يضع الديمقراطية مقابل الاستبداد، يطرح نموذج مودي توجهات معادية لليبرالية إلى جانب عدم الانحياز مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع الاقتصادات الرئيسية في العالم، ويبدو هذا بديلا مفضلا بشكل متزايد للقوى الوسطى الاستبدادية، لاسيما في الخليج، وفقا للخبير في شؤون الشرق الأوسط جون ألترمان.
وقال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان قُبيل اجتماع الرئيس جو بايدن بمودي في البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي لن يلقي محاضرة على رئيس الوزراء الهندي حول حقوق الإنسان.
وذكر أن وجهة السياسة ومسألة المؤسسات الديمقراطية في الهند ستبقى أمورا يقررها الهنود داخل الهند وليس الولايات المتحدة.
واعتبر ألترمان أن “هذا هو بالضبط الاستنتاج الذي يود المسؤولون في الرياض وأبوظبي والقاهرة وغيرهم أن تتوصل إليه واشنطن بشأنهم. هم يرغبون في أن يستقبل الرئيس الأميركي حكامهم دون محاضرات أو شروط مسبقة”.
إن جاذبية النموذج الهندي للمستبدين لا تكتسي طابعا مصلحيا فقط، بل تدعمها حقيقة أن المصداقية ضرورية في معركة الأفكار. والمصداقية هي ما تفتقر إليه الولايات المتحدة.
وكان الإسقاط الفعال للمخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان في العلاقة بين الولايات المتحدة والهند أحدث مثال على رفض واشنطن اتخاذ إجراءات لدعم تصريحاتها أو على الأكثر التزامها الانتقائي بقيمها الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في مواجهة الإطار الذي حددته إدارة بايدن يطرح نموذج مودي توجهات معادية لليبرالية مع الحفاظ على علاقات وثيقة مع الاقتصادات الرئيسية في العالم
وسبق أن خسر بايدن بعض الدعم من خلال تأطير الحرب في أوكرانيا على أنها معركة بين الديمقراطية والاستبداد وليس ما تدور حوله مقاومة الغزو الروسي، أي التمسك بسيادة القانون وحرمة الحدود المعترف بها دوليا.
وتكمن مشكلة بايدن في أن التناقض في سياسة الولايات المتحدة أصبح عبئا بقدر ما كان يمثل إحدى الميزات. وأدى صعود التوجه المناهض لليبرالية في الولايات المتحدة الذي يمثله الرئيس السابق دونالد ترامب إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها بايدن.
ومن المؤكد أن تنازلات غير مريحة تنتج عن موازنة القيم مع متطلبات القوى الكبرى الجيوسياسية.
ولم تحاول الولايات المتحدة حتى الآن استعادة مصداقيتها من خلال مواجهة الاتهامات المشروعة بالنفاق والانتهازية بتوخّي خطاب مقنع لتبرير تركيزها الانتقائي على امتداد عقود على قيم لم تثبت مصداقيتها.
وحدد المعلق الهندي موهان المعضلة الأميركية بالإشارة إلى أن واشنطن “تمكنت من مواصلة أعمالها التجارية لعقود عديدة مع المملكة العربية السعودية والجيش الباكستاني والحزب الشيوعي الصيني، فمن غير المعقول إذن أن نتوقع أنها ستكون مترددة في الاستفادة من المصالح المتقاربة مع حكومة مودي”.
المصدر العرب اللندنية