إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
صعد الإخوان المسلمون في “الربيع العربي” واحترقوا فيه، ربما جذبهم على نحو لم يقدروا على تجنبه، وربما لم يقاوموا إغواء السلطة والجماهير، برغم أنّ “الربيع العربي” حالة مستقلة عنهم، وإن جذبتهم إليها بقوة حارقة مدمرة.
كان “الربيع العربي” حالة اجتماعية اقتصادية تراكمية بفعل منظومة من التفاعلات والأحداث الطويلة منذ قيام الدولة العربية الحديثة، ومتصلة أيضاً بتداعيات الشبكة الناشئة عن سيادة تقنيات الحاسوب والاتصالات المتطورة وانتشارها وتطبيقها في الإعلام والتعليم والحياة اليومية، ولا علاقة له (الربيع العربي) بالإخوان المسلمين؛ إذ إنّهم ليسوا إلا جملة معترضة أو حالة ظرفية عابرة في موجة تحولات كبرى ومعقدة تطال كل شيء تقريباً، ولا تخص العرب وحدهم. لقد أقحموا أنفسهم في مجال لم يشاركوا في صياغته، ولا يملكون أدوات التعامل معه.
في هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لموجة التقنيات الجديدة وتطبيقاتها تشكلت ثورة هائلة وشاملة لا تقلّ عمقاً وتأثيراً عن الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الـ (18)، وأنشأت تحولات جذرية في العالم الحديث.
ويمكن ملاحظة شبكة واسعة من الأسباب والعوامل والتحولات التي تجري في العالم والدول العربية منذ أعوام طويلة، والتي تجعل أو يجب أن تجعل الربيع العربي منتظراً ومتوقعاً. ربما كانت المفاجأة أنّه تأخر، فقد كان مفترضاً أن تجري تغييرات سياسية واسعة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كما حدث في أجزاء واسعة من العالم، مثل الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية والبلقان وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا وجنوب أفريقيا.
كانت قد جرت بالفعل في دول عربية عدة تحولات سياسية، لكنّها لأسباب عدة لم تتطور إلى حالة سياسية ديمقراطية، فقد جرت تحولات ومبادرات سياسية واسعة في الجزائر (1988) ثم تحولت عام 1992 إلى صراع دموي طويل، وفي السودان (1985) ثم أجهضت عام 1989، والأردن عام 1989، كما أجريت انتخابات نيابية وبلدية وشكلت مجالس استشارية في دول عربية وإسلامية كثيرة.
جاء “الربيع العربي” من خلال منظومة واسعة من العولمة الشاملة، الاتصالاتية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتداعيات والتحولات المتشكلة حول المعلوماتية والاتصالات واقتصاد المعرفة، والإحاطة المتاحة والشاملة بالمعلومات والمعرفة والأحداث والتطورات التي أصبحت تمتلكها المجتمعات بمختلف شرائحها الاجتماعية والاقتصادية، والتي منحتها فرصة واسعة للاطلاع والمعرفة، والفرص والآفاق المتاحة للعمل والتأثير من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للخصخصة والتغيير في علاقات الدولة والمجتمع، والدور الاقتصادي والاجتماعي والرعائي للدولة، والأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والتي أدت إلى مراجعة برامج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية وأعادت الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل الرأسمالية الاقتصادية ومشاركة الدولة والمجتمعات والشركات.
يمكن وصف “الربيع العربي” بمقولة “الطبقة الوسطى مضافاً إليها شبكة الإنترنت”، ففي ملاحظتها وإدراكها الواضح للفرق بين واقعها وما تتطلع إليه تبحث الطبقة الوسطى عن أدوات فاعلة وسلمية للتغيير، وقد أتاحت الشبكية القائمة على الإنترنت وشبكات التواصل فرصة جديدة لتنظيم اجتماعي شبكي عملاق يسعى للعمل والتشكل نحو أهدافه وتطلعاته، وفي التعولم التقني والاقتصادي والثقافي الذي يشكل العالم اليوم تشكل لدى المجتمعات وعي وإدراك بما تحب أن تكون عليه، مستمد من اطلاعها الواسع على ما يجري في العالم من أحداث وتطورات، هذه القدرة الواسعة على الاطلاع والمشاركة التي أتاحتها الشبكة عرفت المجتمعات بما ينقصها وما يمكن أن تفعله وما يجب أن تكون عليه.
لقد عبّر “الربيع العربي” عن لحظة ولادة مجتمعات جديدة وموارد وأعمال ونخب وقيم وأفكار وفرص جديدة، منقطعة عن الماضي، وتحمل قدراً هائلاً من التحولات الكبرى والجذرية، وتبدو الدول والمجتمعات اليوم بصدد تشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة ومختلفة، وظهور نخب وقيادات ومجموعات جديدة ومختلفة أيضاً.
في الوعي المجتمعي الجديد والرقابة الإعلامية المتشكلة بفعل ضغط المجتمعات ورغباتها كونها مستهلكاً للإعلام، وتحول الشبكة إلى أداة مجتمعية متاحة وسهلة الاستخدام، فإنّه لم يعد سهلاً مواصلة تهميش الأفراد والمجتمعات، ذلك أنّها تتحول إلى شبكة منظمة ومؤثرة وشريكة للحكومة والقطاع الخاص.
هذه المنظومة السياسية الجديدة أنشأت حالة اجتماعية وثقافية جديدة، وصارت النخب معرضة للتغيير والتبديل والخروج منها والدخول إليها بقواعد جديدة خارجة عن السيطرة السابقة.
صحيح، كما هو واضح، أنّ الربيع العربي انتهى بكوارث سياسية اجتماعية اقتصادية، ودخلت بلدان عدة في الفوضى والهشاشة، وكان ذلك طبيعياً ومتوقعاً في ظل عدم قدرة المجتمعات والحكومات على إدارة واستيعاب التحولات ومدى عمقها وتأثيرها.
وفي الوقت نفسه حدث فراغ كبير أتاح المجال للجماعات الأكثر تنظيماً وتمويلاً أن تتقدم وتؤثر في المشهد، لكنّه وللأسف الشديد كان تأثيراً باتجاه الفوضى أكثر ممّا كان في الاستيعاب الإيجابي والاستجابة الصحيحة الممكنة للتحولات والأحداث.
اعتقد الإخوان المسملون أنّ عالم العرب والمسلمين صار لقمة سائغة قدمت إليهم برداً وسلاماً. صدقوا الخرافة. فالناس لجأت إليهم بسبب حاجتها إلى الإصلاح والإجماع الوطني والاستقرار. خاب ظن الناس، واعتقدوا أنّهم جاءهم وعد الله بلا رغبة أو قدرة في التشارك مع الناس نحو الإصلاح والتنمية. الحال أنّهم لم يشغلوا أنفسهم بذلك في يوم من الأيام، بل إنّهم لا يعرفون ما الإصلاح والتنمية. لم يكن لديهم ما يقدمونه للناس سوى البلاهة!
نقلاً عن حفريات