إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
كان “الإسلام السياسي” مشروعاً للدولة العربية والإسلامية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، للدخول في مرحلة ما بعد الإمبراطورية “الخلافة”، المرحلة التي انتهى فيها عصر الإمبراطوريات في جميع أنحاء العالم، وبدأت دول مركزية حديثة. يكفي الإشارة هنا إلى أنّ الدول المستقلة كانت بعد الحرب العالمية الأولى (25) دولة، وهي اليوم أكثر من (200) دولة.
أرادت القيادات السياسية للدول الناشئة، وهم مجموعة من الملوك والزعماء المتدينين أن ينشئوا دولة حديثة منسجمة مع الإسلام، ولم يكن للتراث الإسلامي في الحكم والسياسة القائم على فكرة ومشروع “الأمّة” أن يستوعب احتياجات الدولة المركزية الحديثة، وخاصة التشريعات المنظمة للحياة العامة والسياسية واليومية على أساس من المعاصرة والانسجام مع الإسلام.
وصار لجميع الدول العربية والإسلامية مؤسساتها التشريعية والتعليمية والتنظيمية، وانتهت الحاجة لمشروع “الإسلام السياسي”، كما لو تريد بناء بيت، فتعهد بذلك لمهندسين وبنّائين وحرفيين، وعندما يتم البيت تعيش فيه، ولا يبقى مجال لبقاء المقاول الذي أنشأ البيت، إنّه ليس شريكاً دائماً لك، ولا تحتاج إليه بعد اكتمال البيت.
هكذا تشكّل الإسلام السياسي في العشرينيات، في ظل حالة مشجعة على ذلك من اتجاهات ومداخل عدة؛ مثل الحالة التي سادت في عالم العرب والمسلمين لأجل استئناف الخلافة، بعد إنهائها في تركيا، والاتجاه الرسمي والاجتماعي الذي تنامى لأجل استيعاب معاصر للإسلام أو العمل على إقامة دولة معاصرة تتواءم مع الإسلام، والاتجاه التحرري لمقاومة الاحتلال الذي تعرضت له معظم دول العالم الإسلامي؛ وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، وفي تطورات كثيرة من المدّ والجزر عاد الإسلام السياسي إلى النمو والانتشار في سبعينيات القرن الـ (20)، في ظل موجة دينية عالمية سادت، وفي حالة الشعور بالهزيمة والانكسار التي أنشأتها حرب 1967.
النواة الفكرية الأساسية للإسلام السياسي تقوم على مسألة الحكم في الإسلام، وشجع الحالة هذه ضعف وانحسار الخطاب الديني الرسمي، وفي هذا الفراغ كان خطاب الإسلام السياسي يعمل وينتشر، بل إنّه شكّل العمود الفقري للمناهج التعليمية والكليات والمؤسسات الدينية التي ترعاها وتنفق عليها السلطات السياسية.
قدّم الإسلام السياسي نفسه بديلاً للنموذج القائم في الدول الإسلامية المعاصرة، ولأنّه نموذج لم يطبّق بالفعل، فقد كان نموذجاً أقرب إلى الحلم أو المثال الذي يداعب خيال وحلم المسلمين، والمستمد من التاريخ في مراحل زهو وتقدم العالم الإسلامي، ويجب الاعتراف بأنّه خطاب، رغم عدم واقعيته، يمثل اليوم أكبر تحدٍّ للدول والمجتمعات الإسلامية والعالم أيضاً، فهو ملهم الإرهاب والتطرف والكثير من الأزمات والانقسامات السياسية والاجتماعية.
ويمكن القول: إنّ جماعات الإسلام السياسي، على اختلافاتها وتعددها، تكاد جميعها تنهل من كتاب “معالم في الطريق” تأليف سيد قطب، وهناك مراجع وكتب كثيرة أخرى تخص الجماعات المتشددة إضافة إلى “المعالم” والمصادر التقليدية والتاريخية المعروفة والمتبعة لدى الأمّة بشكل عام.
لقد مثل سيد قطب حالة اكتسحت عالم الإسلام السياسي، وهي مسألة تحتاج إلى توقف وتفسير وتحليل. وفي كثير من الأحيان تجد أعضاء الجماعات الإسلامية وشبابها يحملون أفكار سيد قطب ومقولاته دون أن يقرؤوا كتبه أو أن يعرفوا أنّها له، لقد أصبحت منظومة فكرية تتلقاها الجماعات على نحو جماعي وشفاهي وخفي، بل إنّها متجذرة وحاضرة في أذهان وتفكير كثير من المتدينين غير المنتظمين في جماعات، والأكثر غرابة أنّ نسبة كبيرة من المشتغلين بالمؤسسات الدينية الرسمية في التعليم والأوقاف والإفتاء والقضاء يؤمنون بأفكار المفاصلة والرفض القطعي التي أنشأها قطب، وإنّك لتعجب كيف يوفقون بين ولائهم السياسي للحكومات والأنظمة، وبين أفكارهم المتشددة التي يؤمنون بها.
يعتبر د. عبد الإله بلقزيز كتاب “معالم في الطريق” بمثابة الإعلان الإسلامي المقابل للمنفستو الشيوعي، أو بيان الحزب الشيوعي الذي كتبه كارل ماركس وفريدريك إنجلز عام 1848، ويقول غازي القصيبي على لسان بطل روايته “العصفورية”: إنّ كتاب معالم في الطريق أهمّ كتاب عربي ألف في الأعوام الـ (500) الأخيرة.
إنّ تحدي احتضار “الإسلام السياسي” لا يواجه الجماعات “الإسلامية السياسية” فقط، لكن أيضاً الأمم بما هي تكوين معقد للسلطات والمجتمعات والأسواق والأفراد، فهي أيضاً تدخل في مرحلة جديدة من التحديات والاستجابات المطلوبة، تتلخص ببساطة في القدرة على التغيير الإيجابي في العدل والازدهار، ومواصلة نموها الاقتصادي وتحسين حياتها.
يتجه العقلاء اليوم من أعضاء الجماعات الإسلامية إلى التحول باتجاه “متدينين يشاركون في الحياة العامة” بقواعدها المتفق عليها وبوضوح وعلانية، في حين تواصل تشكيلات أخرى البحث عن فرص وحيل البقاء والاستمرار، منها على سبيل المثال دمج الإسلامي بالقومي، والانشغال بالحوافز المغرية للأمم مثل الخوف واللجوء إلى التاريخ المجيد والشعور بالتميز والاستعلاء والتعصب الديني والاجتماعي، والحال أنّ الأمم جميعها تمرّ في مرحلة من الخوف وعدم اليقين؛ بسبب التحولات الكبرى القائمة على التكنولوجيات والأعمال الجديدة التي تغير في طبيعة الأعمال والموارد والمؤسسات.
لقد أدخلت جماعات الإسلام السياسي نفسها في مأزق يصعب الخروج منه بالسهولة والتلقائية التي دخلت بهما، فقد أنشأت قواعد ومفاهيم ومبادئ جديدة في فهم الدين وتطبيقه، ثم تحولت هذه المنظومة إلى جماعات ومصالح ومؤسسات وأفكار كثيرة ممتدة فاقت توقعات الجماعات نفسها.
نقلاً عن حفريات