عبدالباسط سلامة هيكل
كاتب مصري
ليس كلّ جدل حول السنّة هو سعْي إلى إنكارها، وإنّما هو نقاش مشروعٌ حول موقع السنّة من التشريع، وهل السنّة مساوية للقرآن الكريم في الدرجة التشريعية؟ ومدى كفاية المناهج المتبعة في فهم/دراسة/قراءة السنّة؟ فالسنّة لا تنطق بالأحكام لكن ينطق باستنباطها عقول الرجال، وهذا سبب للاختلاف والتعدد، وليس هذا الحوار وذاك الجدل وليد عصرنا وإنّما هو قديم يعود إلى بدايات الحركة العلمية في القرن الثامن الميلادي/ الثاني الهجري.
فإذا كان جيل الصحابة، رضوان الله عليهم، ربط طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الواجبة إلهياً بما يبلغه الرسول من الوحي فقط؛ لذلك تكرّر سؤالهم عن قول أو فعل الرسول: “هل هو الوحي أم الرأي والمشورة”؟ “أهو أمرٌ من الله أم شيء يصنعه لهم”؟ وأحياناً كانوا يطرحون اجتهادات أخرى مخالفة لاجتهاد النبي، صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يطلب منهم ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله “أشيروا عليّ”. فإنّه برحيل النبي، صلى الله عليه وسلم، والجيل الأول من الصحابة، رضي الله عنهم، تحوّلت المسلّمة التي تفرّق بين وجود شخصيّتين للرسول بمقتضى صفتَيْه “بشراً نبياً” – يصدر في أقواله وأفعاله عن الوحي المقدس تارة، وعن الرأي البشري تارة أخرى – إلى نقطة خلاف بين مَنْ عُرفوا تاريخياً بـ “أهل الرأي” و”أهل الحديث” قبل أن يُحسم الخلاف بقوة السلطة السياسية وجمود العقلية الدينية لصالح أهل الحديث.
فرأت مدرسة الرأي متمثلة في اجتهادات الإمام أبي حنيفة (٨٠-١٥٠هـ/٦٩٩-٧٦٧م) ضرورة التمييز تشريعياً بين نوعين من السّنة: “سنّة الوحي” الثابتة، وهي أقوال النبي، صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشارحة والمبينة لما ورد مجملاً في تعاليم القرآن الكريم التي قد تختلف أفهام العلماء قديماً وحديثاً حول غير قطعي الدلالة منها.
و”سنة العادات” المتغيّرة، وهي ما سوى ما تقدّم من أقوال وأفعال تُدرج في سياق الوجود الاجتماعي والزمني له صلى الله عليه وسلم.
واعتمدت مدرسة الرأي في موقفها الرافض؛ لأن تكون السنّة في درجة مساوية للقرآن الكريم في التشريع، على ما بين القرآن والسنة من فروق:
أولاً: القرآن الكريم قد اتخذ له الرسول، صلى الله عليه وسلم، كُتّاباً يكتبونه، ويُرتّبونه بآياته وسوره حسب ما أمر به من الله تعالى، بينما السنّة لم يُتخذ لها كُتّاب، ولم يُكتب منها إلا القليل، بل ورد نهي عن كتابتها اكتفاء بحفظها في الصدور، فلو كانت الأحاديث جميعها تشريعاً عاماً كالكتاب، لأمر الرسول بتدوينها وحفظها، كما فعل ذلك في القرآن الكريم.
ثانياً: القرآن الكريم نُقل إلينا بالتواتر حفظاً وكتابة، بينما السنّة نقلت في معظمها بطرق الآحاد، ولم يتواتر منها إلا القليل.
ثالثاً: القرآن لم يُنقل منه شيء بالمعنى، ومنع ذلك فيه منعاً باتاً، بينما السنّة أُبيح فيها ذلك، ونُقل كثير منها بالمعنى، ولا يخفى تفاوت الناس في فهم المعنى وأسلوب التعبير والنقل، وما يملكه اللفظ من تأثير في تحديد المعنى.
رابعاً: كان الصحابة، رضي الله عنهم، يُراجعون النبي، صلى الله عليه وسلم، عند اختلافهم في حرف من القرآن الكريم، وكان يحكم بينهم فيه، إما بتعيين إحدى القراءتين أو بإجازتهما، بينما السنّة لم يعهد فيها شيء من ذلك.
ولعل تأخّر التدوين أدّى إلى إثارة جدل حول ثبوت الكثير منها مما دفع الإمام البخاري إلى أن يكتفي بأربعة آلاف حديث من ستمائة ألف حديث كان قد جمعها، كما نتج عن تأخير التدوين تعدد الروايات وخلافات بين المحدثين تارة، وبين الفقهاء تارة أخرى، وبين هؤلاء وهؤلاء في تصحيح حديث أو رفضه، والتعويل عليه في الدلالة أو عدم التعويل.
على نقيض موقف مدرسة الرأي جاء موقف مدرسة “أهل الحديث” التي أصرّت على التوحيد بين سنّة الوحي وسنّة العادات، التي حُسم الخلاف لصالحها تاريخياً وساد خطابها في الأوساط الدينية.. ومضت قرون من التوقف والجمود أنتجت حالة من الخروقات الصوفية بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر الميلادي عندما أصبح تراب البقيع حيث قبور الصحابة يُباع بوزنه ذهباً، مما كان له أثره في ظهور تيار سلفي مقاوم ليس للبدعة والخرافة فحسب بل لكل محاولة اجتهادية سيقوم بها الإصلاحيون انطلاقاً من فقه المقاصد الذي يربط الأحكام بعللها ثبوتاً وانتفاء، ورغم تعسّر بدايات السلفية المعاصرة في القرن الثامن عشر إلا أنّها نهضت بدعمٍ من بعض الأنظمة السياسية ومهادنة الأخرى، حتى أصبحت أكثر صور التّدين انتشاراً، وأقدرها على مزاحمة التديّن الصوفيّ، وأصبح المتدين في العالم الإسلامي يرى السنّة بعيون التيار السلفي الذي قدّم مفهوماً أحادياً للسنّة، وموقفاً تراثياً واحداً في طريقة الاستدلال بها، وصوّر كلّ ما نُقل عنه، صلى الله عليه وسلم، بأنّه شرْعٌ، واجب، أو مندوب، واستند – كخصمه التدين الصوفي – إلى الأحاديث الآحاد في تقديم مسائل العقيدة متجاهلين أنّ اليقين كسمة أصيلة للعقيدة لا يثبت إلا بالعقل والنقل المتواتر الذي رواه الكافة عن الكافة بلا خلاف، وتمسّك بظاهر الأخبار مدعياً “النصيّة القطعية” المستوجبة للوجوب أو التحريم، فمثل هذا الخطاب هو الأقدر على استمالة العامة بزعم أنّ النّاطق بالحكم والحاسم للاختلاف في المسألة السياسية أو الاجتماعية هو صوت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقيناً دون اعتبار لاحتمالية الدلالة التي تحملها بعض الأخبار، ودون النظر في أثر السياق الداخلي والخارجي في تحديد المدلول.
بهذه الظاهرية توجّه الخطاب السلفي المنقسم على نفسه إلى قراءة الأخبار المسندة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قراءة نفعية بدافعٍ من واقعه بكلّ ما يحمله هذا الواقع من تخلّف مما أدى إلى سيادة حالة من السلبية تارة، وحالة من العنف تارة أخرى، فحرّمت “السلفية المدخلية” إبداء النصيحة للحاكم في العلن، ورأت في إتيان ذلك ما يتناقض مع أصول عقيدة أهل السنّة والجماعة، مستدعية من سنن الترمذي أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ”.
وأنّ سَلَمَة بْنُ يَزِيد الْجُعْفِي سأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا.. قَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ”.
وعلى النقيض منها كفّرت “السلفية الجهادية” الأنظمة الحاكمة متبعةً المنهجية السلفية نفسها في الاستدلال، ودخلت في حرب مفتوحة مع العالم مستدعية من السّنن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إنّ الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب”، “بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي”، “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا “لا إله إلا الله”، “لقد جئتكم بالذبح”.
فأهدر كلا الطرفين تعددية مفاهيم السنّة، وتنوّع المواقف التراثية إزاءها، وساعده في ذلك جمود الخطاب الديني، وقصور البحث في الإسلاميات، فلم نستفد من تنوّع الموقف التراثي من السنّة في إعادة تصنيف وتبويب السنّة وفق رؤية مدرسة الرأي، التي تُميّز بين سنّة الوحي، التي هي بيان نبويّ لمراد الله تعالى، وسنّة العادات الخاضعة لسياق الوجود الاجتماعي والزمني له صلى الله عليه وسلم.
فـ “لو أننا تتبعنا المرويّ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات ولم نخلط بعضها ببعض، ورتّبنا على كلّ منها آثاره، وأعطيناه حقّه، لسهُل على المسلمين أن يَتَفاهموا فيما شجَر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر أو الزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريعٌ خاص، أو مُؤقت” ( ).
ولما تعطّلت جهود موسوعية ضخمة نحتاج إليها في دراسة متن وسند سنّة الأخبار، مستفيدين مما توفّر لدينا من أدوات تكنولوجيا البحث والتحليل وحوسبة المعلومات في تطوير مناهج نقد السّند التي عُرفت عند القدامى بمناهج (الجرح والتعديل).
أخيراً ما دامت سُنّة الأخبار استقرّت في صورة لغوية، فإنّ هذا يستوجب دراستها وفق آليات الدّرس اللغوي، فنستكمل السّلم المعرفي الذي بدأه الدرس اللغوي التراثي عندما استوقف أبا عبيدة معمر بن المثنى (١١٠-٢٠٩هـ/ ٧٢٨-٨٢٤م) قضية المجاز والحقيقة، وركّز عبد القاهر الجرجاني (٤٠٠-٤٧١هـ/ ١٠٠٩-١٠٧٨م) على أثر السّياق الداخلي والخارجي في تحديد مدلول الخبر، ولن يُمكننا استكمال الدرس اللغوي للسنّة دون الاستفادة من اللسانيات الحديثة في تحليل بنية خطابها، وأن نُدرك ضرورة فهم مفردات علوم السنّة والعقيدة والفقه وأصوله بدراسة تاريخ كلِّ مفردة من المفردات في ضوء المنهج العلمي؛ لنفرز ما هو من الإسلام وما هو غريب عن فضائه، وفي ذلك ضمان لديمومة العقيدة وسلامتها وحيويتها.
هامش:
(1) الإمام محمود شلتوت، مجلة الرسالة، ص١٥٣:١٥٠، عدد ٤٤٩، ٩فبراير ١٩٤٢م.