أحمد بان
كاتب مصري
اعتاد الإخوان، في سبيل الترويج لعبقرية حسن البنا المؤسس، ترديد سيرة غير مكتوبة وغير موثقة وتناولها، قوامها حكايات البنا مع إخوانه التي كشفت عن اجتماع خصال لا يمكن تصوّر اجتماعها في شخص واحد، ولا تستقيم أو تصمد لمنهج التحقيق أو المنطق، لكن كلمة البنا التي أكّد فيها “أنّنا لا نسوق الناس إلى ما نريد إلا بعواطفهم وليس بعقولهم”، جعلت المنهج الأثير لدى الإخوان هو ترديد حكايات كثيرة، تتحدث عن قوته الروحية ونسكه بل وعلمه بالغيب حتى.
يذكر أحد الإخوان، وكان اسمه حسن، أنّه اختلف مع زوجته، وكانت لا تنجب، وعزم على تطليقها، ثم ذهب إلى المركز العام للجماعة كي يستشير حسن البنا المرشد في ذلك، فقابله على سلّم المركز العام وبعد أن ألقى عليه السلام، وقبل أن يقول له أيّ شيء، بادره البنا بالقول: “وعليكم السلام يا أخ حسن: أمسك عليك زوجك”. فوصلته الرسالة فوهبه الله منها الولد ولم يطلقها؛ هذه الرواية، وغيرها، والتي كانت تحاول أن تصوغ صورة خاصة لحسن البنا، تجتمع فيها التناقضات أحياناً، لكننا لم نظفر بكتاب يوثق هذه الصفات أو المظاهر، حتى سطر الإخوان كتابهم عن تاريخ الجماعة ومصدرهم الرسمي، والذي حمل عنوان “ظروف النشأة وشخصية الإمام المؤسس”، وبعيداً عن السياقات الطبيعية المرتبطة بكونه أباً صالحاً وعطوفاً، كغيره، سطر الكتاب بعض الصفات الجديرة بالنظر، والتي حاول الإخوان من خلالها تكريس صورة الرجل الملهم.
يروي محمود عبد الحليم، كما ورد في الكتاب؛ أنّ “الإمام الشهيد حدثه عن ظروف قبوله في دار العلوم فقال، ولما حان موعد الامتحان للالتحاق بدار العلوم، وجد أنّ مطالب الحياة الضرورية لم تدع وقتاً تؤهّله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان، فشكا إلى الله الذي يعلم أنّه لم يقصّر لحظة واحدة، يقول رحمه الله ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلاً يواسيني ويقول لي، التفت إليّ فالتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التي سأمتحن فيها في الصباح، فيفتح الكتاب عند صفحة معينة ويشير أن أقرأ، حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها، وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني فلما أصبحت وجدتني حافظاً كلّ ما قرأت، وكانت هذه طبيعتي أن أحفظ ما أقرأه، ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلّها هي نفس ما قرأته في الرؤيا، وهكذا مرت ليالي الامتحان وأيامه على هذا النحو، وظهرت النتيجة وكنت الأول، والحمد لله”.
هذه هي الرواية التي وردت في هذا الكتاب، أوردناها كما هي دون تصرف، وتكشف القراءة المجردة لها كيف أنّ الرجل واعٍ بما يفعل منذ وقت مبكر في صناعة أسطورته الخاصة، فهو حافظ كالشافعي، ومتصل بالله يتعرض للكشف كما الأولياء وكبار العارفين، مع التكوين الصوفي وإدراك قوة تأثير الشيخ على المريد، جعله حريصاً على أن يترك في نفوس مريديه هذا الأثر، بأن يتداول التلامذة مناقبه المصنوعة بعناية فيرسمون له الصورة التي يريدها.
ببساطة، لم يذاكر دروسه لانشغاله بأمور الحياة والدعوة، فيرى الامتحان في الرؤية ويصبح الأول على أقرانه.
وتتواصل الروايات في صناعة الصورة، يقدَّم الرجل باعتباره موسوعيّ الثقافة، رغم أنّه لم يعرف بإنتاج في العلوم او المعارف، وثبت لاحقاً أنّ كلّ ما ضمنه كتاب ما يسمى “رسائل البنا”، كان نقلاً عن غيره، دون ذكر للمصادر التي نقل عنها.
يقول مؤرّخهم: “وقد قرأ الإمام الشهيد في شتى مجالات المعرفة، وتشكّلت ثقافته من كلّ أصناف ميراث الحضارة الإسلامية والتاريخ، فقرأ للغزالي المتصوف والزمخشري المعتزلي وفخر الدين الرازي الفيلسوف وأبي الحسن الأشعري مؤسس المدرسة الأشعرية، بالإضافة إلى كتابات السلف والأئمة الصوفية، كما قرأ لديكارت وإسحق نيوتن وميشال الفلكي وهربرت سنبسر، واستشهد بهم، .. وقد كان لا يكتفي بمجرد القراءة العابرة، فقد كان يعرف التطور التاريخي لكل علم وأصوله، لا سيما في اللغة والشرع ، حتى إنّه كتب في كثير من علوم اللغة والشرع”؛ تكشف الفقرة السابقة عن ضحالة مؤرخي الجماعة وضعف صلتهم بفروع الثقافة المختلفة، فلم تكن الثقافة يوماً حكراً على تلك العناوين في بعض فروع اللغة والتصوف، لم يسجل أحد من الإخوان أنّ البنا قد خضع، أو أخضع نفسه، لبرنامج تثقيفي متنوع بين كلّ المعارف، بل بقيت صلته فقط ببعض علوم السلف والتصوف دون باقي العلوم الاجتماعية الأخرى، وهو العيب الذي لازم التكوين الفكري لكلّ عناصر الجماعة وقيادتها، فلا حديث عن أدب أو شعر أو فلسفة أو علم نفس أو اجتماع، أو غيرها من علوم الحياة، ثم إنّ المكتبة العربية لم تعرف أيّ مؤلَّف حمل اسم حسن البنا في علوم اللغة أو الشريعة؛ فمن أين أتى مؤرّخو الإخوان بتلك الفرية.
يقول البنا إنّه طُلب منه أن يتكلم في الثورة الفرنسية بمناسبة رواية سينمائية، فشرحها بإيضاح وبسط أدهش الإخوان المتخصصين في التاريخ، وكان الناظر في ذلك يتيه سروراً!!
يواصل الكتاب سرد بعض الشهادات التي كتبها بعض الأعلام عن حسن البنا يمتدحون فيها عقله وسجاياه المتفردة، من ذلك ما سجلوه عمّا قاله الشيخ طنطاوي جوهري عن البنا: إنّ “حسن البنا في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنّه قلب علي وعقل معاوية، وإنّه أضفى على دعوة اليقظة عنصر الجندية، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر الإسلامية، وبذلك يعدّ هذا الجيل الإسلامي الحاضر، النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم”.
تقوى علي، رضي الله عنه وأرضاه، مع ذكاء ومكر معاوية كرجل دولة، تأمّل كيف تجتمع المتناقضات في رجل؟! لكنّها الأسطورة التي تواطأ الجميع على صنعها في شخص حسن البنا.
يتعرض الكتاب بعد ذلك للون آخر من ألوان العبقرية في شخص البنا، وهو ما أسماه مؤرخ الجماعة “التسامي عن المناصب والترفع عن المنن”، ثم ينقلون عن البنا قوله: “فرّغوني أنا للعمل الخاص للدعوة، اتركوا لي أنا الناس والشعب للتربية والتفقيه، واختاروا لكم مرشداً عاماً يكون همّه إدارة الدعوة وتصريف شؤونها، ويكون عملي مجرد داعية فقط لا أقيم في القاهرة إلا أياماً قليلة أنقل لكم أخبار الأقاليم، وسرّحوني على أجيال هذه الأمة وقراها وأصغر القرى فيها لأتولّى التربية”.
طبعاً، الواقع قال لنا إنّ حسن البنا ظلّ مرشداً عاماً وحيداً للجماعة، يحتكر القرار والتدبير والتفكير والدعوة وكلّ المساحات، منذ تأسيس الجماعة وحتى مقتله، أي أنّه ظلّ مرشداً لمدة 21 عاماً، ولم يدع الفرصة لأحد أن يشاركه الإدارة او التدبير، حتى إنّ تفسيره للشورى الإسلامية أنّها معلمة وليست ملزمة، على خلاف الفقه الإسلامي الراسخ.
ونختم بهذه الرواية التي تتغزل في قوته الروحية، التي أسماها أشياعه بالقوة الروحية الخارقة لـ “السوبرمان” حسن البنا، إذ ينقلون عن أحمد السروي أنّه طلب من البنا أن يصحبه في قضاء مصلحة له فسار معه حتى دخل معه منزلاً، فوجد نفسه في مكان يشبه أن يكون عيادة طبية، ويكمل الأستاذ المرشد القصة فيقول: “وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجّب ولا أدري ماذا يريد مني، يقول الأستاذ المرشد: “وبعد نحو ساعة وقف الطبيب وقال للسروي، صاحبك هذا قوة روحية خارقة ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها، لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم أتركه إلا بعد أن أحسست أني إذا زدت على ذلك لحظة فسأنام أنا”.
يكمل السروي الرواية؛ بأنّ “هذا الرجل كان أقوى منوّم مغناطيسي في مصر، وفشل في تنويمك”، تخيلوا مثل هذه الروايات، لتعرفوا كيف صدق جمهور رابعة بأنّ مرسي أمّ المصلين بعد أن قدمه الرسول، صلى الله عليه وسلم، إماماً، وأنّه سيعود إلى القصر بعد العصر.
نقلاً عن حفريات