إيمان النمر
كاتبة مصرية
تتّسم المصادر المعرفية لنساء الطبقات الشعبية بالمحدودية، باستثناء اللاتي مُنحن فرصة أن يخرجن إلى العمل التجاري، الذي يستلزم كثرة الحركة والترحال من بلدٍ إلى آخر، ما أعطاهن مساحةً من حرية التعامل مع الرجال والنساء من بيئات أخرى، حتى الإقليمية منها، ومن ثمَّ اكتساب خبرة السوق ومهارات التواصل الاجتماعي، واستغلالها في تكوين شبكة من العلاقات الاجتماعية المتنوعة التي تتسع من خلالها آفاق التفكير، إلّا أنّ هذا كلّه يظلّ تحت رعاية وإشراف الأب أو الزوج، رب الأسرة وولي الأمر، وقد يُمثّل الرجل، الأب أو الزوج، مصدر المعرفة المنظمة والموثوق فيه بالنّسبة إليها.
في بعض الحالات، يمثّل الأب المعلم المقدَّس ومقياس معيارية الأضداد “خير-شر”، “صواب-خطأ”، وهو الرمز الذي قد تفوق قداسته النصّ التأسيسي للدين في حال التعارض في رؤيتهما وحكمهما، فيتولّى مسئولية تعليم ابنته، منذ طفولتها، أدبيات التعامل مع الآخر، لا سيما عندما خرجت إلى مجال العمل، وهي لم تتجاوز 12 عاماً، ويمدّها ببعض المعلومات الفقهية الخاصة بأداء الفروض من صلاة وصيام وخلافه، فتتعرف من خلاله على بعض قَصص الأنبياء وكرامات الأولياء، وتحفظ بعض قصار السُوَر من القرآن، إلى جانب العديد من الأمثال الشعبية ومعاني مضامينها.
*يشكّل الزوج في حياة بعضهن مركز معارفهن الدينية وغالبية هؤلاء لم يتلقين تعليماً نظامياً على الإطلاق**
وفي حالات أخرى؛ يشكّل الرجل الزوج في حياة أخريات مركز معارفهن الدينية، وهؤلاء لم يتلقين تعليماً نظامياً على الإطلاق، ولم يمتلكن، إلى حين زواجهنّ، وسائل إعلام مرئية أو مسموعة؛ لأنهنّ كُنّ يقضين جلّ وقتهنّ في العمل بالزراعة أو المهن الحرفية والخدمية، ويكتفين بالتوكل على الله في تصريف أمورهن والدعوة إليه بالرزق الحلال. وأن يمتعن بنعمة الستر والصحة، رأسمالهن في الحياة، دون أن يؤدين فروضاً أو طقوساً دينية منظمة، لم يدركن كيفيتها أو ماهيتها، مثل الصلوات الخمس، ولا يحفظن من القرآن أيّة سُورة لقراءتها في الصلاة، إنّما كُنّ يحفظن العديد من الأغاني والأهازيج التراثية التي تُعينهن على شقاء العمل إلى أن تزوجن.
ومن خلال أزواجهنّ، تعرّفت بعض النساء إلى بعض أحكام الفقه الخاصة بالمرأة، مثل: عدّتَي الطلاق والوفاة ومدّتهما، وأحكام الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس، وكيفية الاغتسال والوضوء. وحفظن قصار السُوَر، وأركان الصلاة، وكيفية أدائها في مواقيتها، وتحديد القبلة، وعدد الركعات، والسجود، ونصوص الأذكار والتحيات الختامية.
كما أنّ الزواج سمح لبعضهنّ بالانسحاب من الحياة العامة والاحتجاب داخل المنزل، حتى أصبح لديهن وقت الفراغ الذي يمكنهنّ من متابعة وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة، وما تبثّه من أعمال درامية تؤثر في وجدانهنّ، وبرامج دينية واجتماعية عديدة تثير اهتمامهن، وتتصل بمسائل وممارسات حياتهن اليومية، لا سيما إذاعة القرآن الكريم، والقنوات الدينية المتخصصة، التي أعادت تشكيل وعيهن وأمدتهن بالعديد من أدبيات التعامل اليومية،
وتفسيرات الأحاديث النبوية والقرآن، وكذلك سير الأنبياء والصحابة، وأحكام التشريع المختلفة، وأذكار التوحيد والاستغفار والتسبيح، وتربية النشء على النهج الأخلاقي الذي حدده الدين.
*الزواج سمح لبعضهنّ بالانسحاب من الحياة العامة والبقاء داخل المنزل حتى أصبح لديهن وقت لمتابعة وسائل الإعلام*
وتُعدّ الحكاية الشفوية القديمة، التي تقصّها النساء المسنّات والأمهات على أطفالهن، ولا تخلو من لذّة البوح وخيال التفاصيل العجائبية المثيرة والعنيفة، التي تقصّها النساء المسنّات والأمهات على أطفالهن، من أهم المصادر المعرفية في حياة المرأة، وربما تكون الجدة الصعيدية هي أكثر النساء حفظاً لحكايات إيزيس العتيقة، ولا تتحقّق من حياتها وقيمة عمرها الذي ولى سوى بسرد رواياتها، وتمريرها بحرص وعناية وكأنّها أمانة لديها إلى وعي بناتها وحفيداتها، فهناك العديد من الأسرار الغامضة المُطَلسمة، التي لا بدّ من أن تتعلمنها للاستعانة بها في فكّ السحر عن الزوج المربوط من الجنيات، ومشاهرة العروس، ومباركة المولود وختانه، والخلاص من لعنات الفراعنة المشعّة من معابدهم وقبورهم، لمن سوّلت لهم أنفسهم العبث فيها.
وتتمتع المرأة، بوجه عام، بذكاءٍ حدسيّ يُرمز إليه عادة بالقلب؛ لذا كثيراً ما تشير إلى قلبها في حديثها وتدينها، ومعياريتها في الحكم على الأشياء والنّاس، كقول إحداهن:”قلبي مش مريحني، أو قلبي حاسس، أو قلبي مقبوض من هذا الشخص أو المسألة”، ويتجاوز القلب قدرته على كشف المحجوب عند المرأة بأن يكون هو ذاته مصدر المعرفة الدينية المعتمد لدى بعضهن، وهي بذلك تكون أقرب إلى الفكر الصوفي الذي يعتمد في معرفته على ما يسميه “العلم اللدني” الذي يمنحه الله للأصفياء من عباده المقربين، وتعبر عن تلك الحالة بقول: “بيني وبين الله عمار”. تنتمي أغلب هؤلاء إلى المجتمع الزراعي البِكر، ونادراً ما يستمعن إلى الإذاعة أو وسائط الإعلام المرئية، وليس لديهنّ إلمام أو اهتمام بالمسائل الفقهية، ولم يتلقين أيّ تعليمٍ نظاميّ، وبعضهنّ لا يعرفن أية كرامات أو سير الأولياء، ولم يزرنَ الأضرحة الصوفية، باستثناء تلك الزيارات في طفولتهنّ بصحبة أمهاتهن.
*يتردّد بعضهن على المساجد الكبرى التي تقدم بعض الخدمات الاجتماعية بشكل مجاني أو رمزي*
وتستقي بعض النساء، لا سيما الفتيات من مواليد أواخر عقد السبعينيات، معرفتهن الدينية من التعليم النظامي، وأغلبهن اكتفين بمرحلة التعليم الثانوي، وهؤلاء لا يفضلنَ قراءة المادة المدونة، باستثناء بعض التفسيرات اليسيرة للقرآن الكريم، أو نصوص بعض الأذكار الصباحية والمسائية، ويعتمدن على المادة المرئية والمسموعة عبر وسائط الإعلام، بشكلٍ أساسي، ومؤخراً من خلال الإنترنت، لا سيما المنتديات الدينية والنسائية، وصفحات التواصل الاجتماعي.
ويلعب المسجد دوراً محدوداً في دائرة المعرفة الدينية للنساء؛ حيث يقتصر الأمر على استماعهنّ إلى خطب الجمعة، والمناسبات الدينية، من خلال مكبرات الصوت القريبة من بيوتهن، وتُلاحظ هامشية العلاقة بين النساء والمسجد، لا سيما في الريف، وذلك إمّا لمحدودية المساحة وعدم وجود أماكن خاصة بهن، أو لانشغالهن الدائم وعدم امتلاكهن لوقت فراغ يسمح لهن بالمواظبة. وفي الحضر يقتصر تردّد النساء على مساجد الصوفيين والأولياء يوم الجمعة والمواسم الدينية، مثل: شهر رمضان، وعيدَي الفطر والأضحى، أو عند الحاجة للفتوى، أو طلباً للراحة النفسية، كما يتردّد بعضهن على المساجد الكبرى التي تقدم بعض الخدمات الاجتماعية بشكل مجاني أو رمزي، ما يجعلها فرصة سانحة لإعطائهن بعض الدروس الدينية، وبثّ الأفكار الموجهة بشكل أيديولوجي، وهو ما يفسّر انخفاض حِدة الخطاب الديني الذي يحضّ على كراهية ذهاب النساء إلى المسجد.
نقلاً عن حفريات