منتصر حمادة
كاتب مغربي
من نتائج أحداث كانون الثاني (يناير) 2011 التي مرّت بها المنطقة العربية؛ أي أحداث “الفوضى الخلاقة” عند البعض أو “الربيع العربي” عند البعض الآخر (من قبيل التيار الإخواني و”يسار الإخوان” داخل وخارج المنطقة)، أنّها تسببت في فتح النقاش حول مجموعة من المفاهيم والظواهر التي كانت متداولة قبل تلك الأحداث، لكن دون تدقيق وتمحيص يساعد المتتبع أو المتلقي على الحسم في مضامينها وتفاصيلها.
من بين هذه الظواهر موجة “المراجعات” عند الحركات الإسلامية في المنطقة العربية، ونخص بالذكر هنا المراجعات عند التيار الإسلاموي الجهادي من جهة، والمراجعات عند المشروع الإخواني من جهة ثانية.
في الحالة الأولى، ثمّة العديد من التجارب التي لا يمكن القفز عليها كلما تطلب الأمر الخوض في الظاهرة، من قبيل ما جرى في التجربة المصرية أو التجربة السعودية أو التجربة الليبية على عهد سيف الإسلام القذافي الذي كان منخرطاً في احتضان ومتابعة الموضوع حينها، قبل قدوم الأحداث سالفة الذكر التي أعادتنا إلى الوراء بخصوص بعض تفاصيل الظاهرة، وبيان ذلك جلي مع ما جرى في الحالة المصرية.
معلوم أنّه مع الحالة المصرية، سواء مع “الجماعة الإسلامية” أو تنظيم “الجهاد”، بدأت المراجعات منذ عام 1997، وكنّا إزاء تنظيم إسلامي وازن، وتنظيرات فقهية تشرعن ممارسات هذه التنظيمات، إضافة إلى أنّ الأمر يهم البلد الذي أفرز واقعه المجتمعي “أم الحركات” الإسلامية في المجال الإسلامي العربي على الأقل، أي جماعة “الإخوان المسلمين”، بل إنّ الدولة المصرية كانت “إزاء حركة ثورية كبرى كان مشروعها ليس الاحتجاج أو المعارضة التي يمكن التفاوض معها والتفاهم، بل إنهاء الدولة نفسها. وكانت قد نجحت في القضاء على رأس الدولة (اغتالت الرئيس السادات عام 1981)، وخاضت مواجهات عنيفة مع أجهزتها، وكلفتها خسارة اقتصادية كبيرة بتوجيه ضربات موجعة لقطاعات مؤثرة مثل السياحة”، كما خلُص إلى ذلك الباحث المصري الراحل حسام تمام.
*يمكن الجزم أنّ احتمال المراجعات مع الشباب والمراهقين هيّن مقارنة مع احتمال المراجعات عند القيادات والرموز، ولعل هذا المعطى يساعدنا على قراءة تحول نسبة من شباب ومراهقي الإخوان في حقبة المراجعات نحو التصوف، أو الاهتمام بالرياضة، أو الانخراط في مبادرات فنية وثقافية ومجالات أخرى*
وبالنتيجة، سوف نعاين صدور العديد من المؤلفات المرجعية التي أسّست لأدبيات “المراجعات”، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب “نهر الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية”، ثم “سلسلة تصحيح المفاهيم”، وتضم (4) كتب: مبادرة إنهاء العنف: رؤية شرعية ونظرة واقعية؛ حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين؛ تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء؛ النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين، وهناك أيضاً الكتاب القيّم الذي يحمل عنوان: “استراتيجية وتفجيرات القاعدة: الأخطاء والأخطار”، ونعتبره أهم ما حُرّر في النقد النوعي ضد أدبيات “الجهاديين”، ونزعم أنّه يتفوق على ما صدر عن بعض المؤسسات الدينية في المنطقة، ولكن هذا موضوع آخر يستحق مقالة وحده.
كان علينا انتظار أحداث كانون الثاني (يناير) سالفة الذكر حتى نعاين اختبارات ميدانية صريحة لحقيقة تلك المراجعات لدى التيار الإسلاموي الجهادي في مصر، حيث اتضح أنّنا كنّا أمام تيارين اثنين: بقي الأول وفياً لخيار وخطاب المراجعات، ولعل حالة القيادي ناجح إبراهيم توجد في مقدمة هذه الرموز، بالرغم من الإغراء السياسي والديني الذي تميزت به تلك الأحداث، أي إغراء صعود المشروع الإخواني وفوزه بانتخابات تشريعية في تونس والمغرب ومصر، أو الظفر بكرسي الرئاسة في مصر؛ أمّا التيار الثاني، فاتضح أنّه عاد إلى حقبة ما قبل المراجعات، كأنّه كان يمارس التقية أو لم يمارسها لكنّه سقط في شرك الإغراء الإسلاموي، وتورط بالتالي في العودة إلى خطاب ميّز خطاب الجهاديين في مصر ما قبل 1997.
نأتي إلى الحالة الثانية، والتي تهم المشروع الإخواني، حيث كان منتظراً بعد منعطف 30 حزيران (يونيو) 2013 بداية؛ أي إغلاق تجربة حكم جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، أو ما جرى خلال الأعوام الماضية في كل من تونس والمغرب، أي خسارة الإسلاميين الانتخابات التشريعية، أن نعاين انخراط أقلام المشروع في المراجعات نفسها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه يصعب الحسم في طبيعة ومعالم هذه المراجعات إجمالاً، لعدة اعتبارات نلخصها في اعتبارين اثنين على الأقل:
ـ يتعلق الأمر بتعدد أجيال المشروع الإخواني، على الأقل مع السائد حالياً، حيث يمكن الحديث عن (3) أجيال على الأقل، من جيل الرموز والزعامات إلى جيل الشباب والمراهقين.
ـ أمّا الاعتبار الثاني، فمرتبط بتأثير تجربة النهل الإيديولوجي على الأعضاء في حال الانفصال عن المشروع، سواء تعلق الأمر بالرموز أو الأتباع من فئة الشباب على الخصوص، وقد سبق أن اشتغلنا على الموضوع، وخلصنا إلى أنّ الانفصال عن المشروع، في شقيه الإيديولوجي والتنظيمي، غالباً ما يكون مصاحباً بمضاعفات نفسية وفكرية على الأقل.
*بالعودة إلى معضلة المراجعات النسبية عند فئة من شباب الإخوان اتضح أنّ بعض مروجي ومؤيدي هذا الاستكتاب كانوا من أتباع المشروع الإخواني، لكنّ التأثير الإيديولوجي ما زال قائماً، لاعتبار بَدَهي، مفاده أنّ الانفصال عن المشروع تحقق تنظيمياً، لكنّه لم يتحقق إيديولوجياً*
إجمالاً، يمكن الجزم أنّ احتمال المراجعات مع الشباب والمراهقين هيّن مقارنة مع احتمال المراجعات عند القيادات والرموز، ولعل هذا المعطى يساعدنا على قراءة تحول نسبة من شباب ومراهقي الإخوان في حقبة المراجعات نحو التصوف، خطاباً أو ممارسة، أو نحو الاهتمام بالرياضة، وخاصة كرة القدم، أو الانخراط في مبادرات فنية وثقافية ومجالات أخرى ما كان الاشتغال عليها يتم بالأفق السائد اليوم في حقبة المراجعات مقارنة مع مرحلة الانضمام للمشروع.
لكنّ الأمر مغاير مع جيل الرموز والقيادات، ومن الصعب حصر الأمثلة في هذا السياق، والتي تفيد بأنّه لا وجود لمراجعات عند أسماء تفكر تحت سقف إيديولوجي شبه طائفي مغلف باسم الدين، والنموذج هنا مضامين الإعلان الصادر مؤخراً بخصوص فتح باب الاستكتاب لإصدار كتاب جماعي حول أعمال باحث وداعية مغربي، كان إلى وقت قريب الرئيس السابق لما يُسمّى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وهي مؤسسة دينية تابعة للمشروع الإخواني أو ما يُصطلح عليه “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”، وهذا شأنهم الخاص.
في ملصق الاستكتاب، والمؤرخ في 6 تموز (يوليو) الجاري، نقرأ أنّ صفحة المحتفى به هي أنّه “العلامة” (كذا)، وفي أعلى الملصق نقرأ أنّ هذا الاستكتاب يهمّ كتاباً دولياً محكماً (كذا)، كما نقرأ ضمن محاور الاستكتاب، المحور الرابع تحت عنوان “جهوده للحركة الإسلامية توحيداً وتنظيراً وتربية”، والمحور الخامس تحت عنوان “المواقف العملية والمعارك الفكرية” ومن ذلك “مواقفه من الثورات والربيع العربي”، و”مواقفه من الاستبداد ومواجهة الظلم والطغاة”.
من مؤشرات الحضور الإيديولوجي الصريح، في أفقه الإخواني بالتحديد، أنّ اللجنة العلمية للاستكتاب تضم لائحة من الأسماء من المنطقة العربية، منها (6) أسماء من المغرب، أغلبها تنتمي إلى المشروع الإخواني الذي ينتمي إليه المعني بالاحتفاء في كتاب “محكم”، مع أنّ هناك تياراً إسلاموياً آخر، لكن لا مكان له في اللجنة “العلمية”، أي تيار جماعة “العدل والإحسان”.
سوف نصرف النظر عن معضلة توزيع الألقاب في المنطقة العربية، سواء مع شُعب الدراسات الإسلامية أو العلوم الإنسانية وغيرها، فهذا ملف نزعم أنّه “طابو” أو مسكوت عنه إن لم يكن غير مفكر فيه، لأنّه يعج بالحساسيات، ولكن بالرغم من ذلك، يُفيد القليل من التفكير المنطقي السليم أنّه لا يستقيم الحديث عن تجميع مواد بحثية تهم كاتباً أو باحثاً ما، ووصفه في بأنّه “علامة”، لأنّ مجرد إطلاق هذا اللقب يعطي القارئ فكرة أوّلية عن مضامين الكتاب؛ أي أنّ تلك المضامين لا تخرج عن خطاب المجاملة والدعاية، وهذا متوقع أساساً، ما دام الاستكتاب صادراً عن منظومة إسلاموية إخوانية، حتى إنّ الصفحات الرقمية التي روّجت له في مواقع التواصل الاجتماعي تنتمي إلى المنظومة نفسها، لكن للمفارقة ـ بالعودة إلى معضلة المراجعات النسبية عند فئة من شباب الإخوان ـ اتضح أنّ بعض مروجي ومؤيدي هذا الاستكتاب كانوا من أتباع المشروع الإخواني، لكنّ التأثير الإيديولوجي ما زال قائماً، لاعتبار بَدَهي، مفاده أنّ الانفصال عن المشروع تحقق تنظيمياً، لكنّه لم يتحقق إيديولوجياً.
نقلاً عن حفريات