كله يللن محمد
وسط أجواء يسودُ فيها الشكُ والريبة بجدوى الفلسفة وصلاحيتها لعصر العلم لايزال الفيلسوف الألماني نيتشه يُسجل الحضور بأفكاره المدوية ويشدُ الاهتمام على نطاق واسع بآرائه المُعادية للوثنيات الحداثوية، ولايصح أن يفهم هذا الموضوع باعتباره مجرد تسديد الدين لشخصٍ لم يُنْصفْ في زمنه، بل لأنَّ صاحب “هكذا تلكم زرادشت” واضح وجرىء في تشخيص أعراض المُعاناة الإنسانية ومايعنيه إرجاء الحياة من الكوارث بالنسبة للفرد والمجتمع.
هذا ناهيك عن كشفه الغطاء لسرداب من المشاعر التي مافتيء الإنسان يتنكرُ لها تحت شتى التسميات والشعارات مثل الشفقة والثورة والإيثار لذا لايعودُ نيتشه إلى المشهد الفكري من بوابة السرديات التاريخية على غرار رصفائه الذين كملوا حلقاتِ بعضهم البعض فيما راق لصاحب “ما وراء الخير والشر” التقويض وقلب القيم كان كارل ياسيبرز محقاً في قوله بأنَّ “نيتشه ليس فيلسوفا مثل الفلاسفة الآخرين، بل هو شيء آخر كلياً إنه حدث”.
يرحل الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في كتابه “الحكمة التراجيدية” نحو عالم نيتشه ساعياً إلى الإبانة عن خصوصية صوته الفلسفي مُتطلعاً إلى حسن توظيفه بعدما أسيء إليه في حقبة تاريخية معينة.
يسردُ أنوفراي في المقدمة قصةَ كتابه فقد كان مخطوطه مرمياً في الركن لردح من الزمن قبل أن يرجعَ إليه والسؤالُ الذي راوده عندما كان بصدد مراجعة المحتويات هو هل تعدُ هذه الصفحات خطأً من خطايا مرحلة الشباب؟ ويؤكدُ في ذات السياق بأنَّه لم يحذفْ من المضمون، وما يقوله في هذه الحيثيات يوحي بأنَّ نيتشه ركنُ أساسي في مشروعه الفلسفي، والأهمُ في هذا الإطار هو مايستخلصُ إليه المؤلفُ بأنَّ الفهم الفعلي للفيلسوف لايتمُ إلا بالنظر إلى مغامرته الحياتية الذاتية وبالبطع تتمثلُ سيرة نيتشه لهذه القاعدة أكثر من غيره.
لا يتنصلُ ميشل أونفراى عن خلفيته اليسارية لكن ذلك لم يحول دون التعمق في عالم الخصم اللدود للإشتراكية الماركسية لأنَّ نيتشه حسب قراءته من الفلاسفة القلائل الذين توسعُ لك صحبتهم وعشرتهم فرصةَ بناء كيان وجودي وتذوق معنى الحيوية ينصحُ أونفراي بأن لانستخفَ بالخصوم إذا أتاحت لنا انتقاداتهم معرفة صورة أفضل عن ذواتنا.
لاشكَّ إنَّ هذه المرونة تُجنبُ العقلَ من مغبة الانزلاق نحو شرك الجمود والتآسن.
الحفاوة البليغة
النغمة الاستثنائية في روح نيتشه تتمثلُ في نبذه للوصايا التي تنصُ على التزهد وفصل الجسد عن طاقاته الفاعلة فهو يحتفي بديونيسوس وبكل ما يكثف الالتذاذ بالحياة.والمسرح، والموسيقى، والكتابة، والرحلات، والاستعمال المفرح للجسد، وهذا مايجعلُه متفرداً من بين أقرانه ونبرة شذراته البليغة لاتُشبه كلامهم المُحنط ولا تنظيراتهم المجردة، هذا ليس كل مايمكنُ قوله عن التناول الأحدث لحياة وفلسفة نيتشه بل الملمحُ الأبرز في في منهاج أونفراي هو عدم تقيد بالتفسير الأكاديمي إذ يؤثرُ تقديم صورة منسقة عن نيتشه بمعزل عن نسخ متعية أو يسارية أو تحررية علماً بأنَّه من السهل إيجاد مسوغات لكل ذلك من خلال الاقتباسات المنتزعة من سياقها النصي.
الخلط المُضلل
يعتقدُ ميشال اونفراي بأنَّ العوامل العديدة قد تدخلت بيننا وبين نيتشه منها الحرب العالمية الأولى والثانية والآيدولوجيات والتأويلات المشوهة هذا إضافة إلى الدور التدميري لشقيقته إليزابيت فورستر إذ سوقت بالتطواطؤ مع التيار النازي الصاعد في ألمانيا للخلط المضلل بين المهاترات ومفهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى.
وخالفت وصية شقيقه عندما طلب منها بأنْ يُدفن بعيداً عن جلبة الفضوليين والكهنة فهي أبت إلا أن تشيعه في أجواء كهنوتية بامتياز، بعد التحكم بجسد نيتشه قد تفرغت إليزابيت لأوراقه ومسوداته فصنعت من أخيه مفكراً يمكن للمعسكرات المعادية لمعسكره تطويعه لصالحها والأسوأ في سلسلة التعسفات التي اقترفتها اليزابيت بحق شقيقها حسب رأي أونفراي هو الترويج لفورهر بأنَّه نسخة من الكائن المتفوق الذي كان يؤمنُ به نيتشه.ولم تكتفِ بذلك بل أهدت لسيد الرايخ الألماني الجديد العصا التي تعود إلى صاحب “العلم المرح” ومن ثمَّ يبادرُ جيش من المفكرين لتكريس صورة نيتشه مرتدياً زي الضباط النازيين كما أخذ لدى الماركسسين مثالاً للمفكر الرأسمالي والبرجوازي المضمحل.ضف إلى هذه التوظيفات المسيئة لمشروعه الفلسفي المُعاناة التي كابدها نيتشه في حياته مع المرض والوحدة ستدرك بأنَّه كان مُحاصراً من جميع الجهات.
الخصومة
لم تتوانَ المؤسسة الفلسفية في محاربة نيتشه وذلك لايستدعي الشعور بالاستغراب لأنَّ المؤسسات لاتريدُ إلا التبعية ولاتنشأُ على كنفها سوى أفكار تقليدية.
ومن المؤكد أنَّ القفز على الأسيجة دائماً يثيرُ عاصفة من ردود الفعل المُستنكرة.
والحال هذه لاشيء أكثر مدعاة للسخرية من توظيف نيتشه لأغراض مؤسسية منها مؤسسة سياسية لأنَّ الحقل السياسي لاتعملُ فيه غير العقول الوضيعة لذا فقد دعا إلى الابتعاد عنه والمُحافظة على النقاء من الأدران المتأصلة في هذا المُستنقع.
وتستشف مما يصرحُ به على لسان زرادشت أنَّه كان رافضاً للحرب والاحتفال بسفك الدماء وذلك كله من ترسانات تعبوية في الفعل السياسي “كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أنَّ الدماءَ تقوم شاهدة الحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم لأنَّ الدم يقطر سماً على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وأحقاد”، ولاترتقبُ فلسفة نيتشه من الشعب المُصاب بالتعصب السياسي والقومي سوى الانغراز في وحل التبلد.
وتقع في أدبيات فيلسوف الريبة على التحذير من الركون إلى أي شخص، وإن كان أحب الأشخاص إلينا فكل شخص هو سجن وانزواء أيضاً ولايعادلُ هذا الخطر إلا الركون إلى الوطن وإنْ كان أشدَّ الأوطان معاناة وأحوجها إلى المعونة، لأنَّ الوطن في نهاية المطاف ليس أكثر من بلاغة المُتحاربين الأميين.
والمـتأملُ في هذا الخط الفكري الواضح والمُتخفف من الأوهام العنصرية يتأكدْ أكثر بأنَّ ما تخمض عنه القراءات المغرضة لفلسفة نيتشه والتحامل عليه والقول بأنَّ أفكاره قد رشت التربة ببذور النازية وتأليه الزعيم ليس إلا هراءَ.
جوهر الحياة
ما يضاعف من حرارة هذا النص أنَّ ميشال أونفراي تناول فلسفة نيتشه بلغة شيقة تكشفُ عن عقلية سائحة في مجرةٍ من الأفكار المُتناثرة في مؤلفات فيلسوف الإرادة.ومن المعلوم أن قيمةُ نيتشه لاتكمنُ فحسب في انشقاقه عن تاريخ الفلسفة المُثقل بالأنموذج وشنه حرباً لاهوادة فيها على المُومياوات الفكرية.بل يستمدُ نبوغه من الالتفات إلى ماهو من جوهر الحياة ولكن نادراً ما تصادفهُ على طاولة سدانة الحكمة.
ومن يتصدرُ تراتبية سلمه في تصنيف الفلاسفة هو الأقدر على الضحك الذهبي وترى على رأس قائمته ديوجين، وإمبييدوكليس، ومونتاني ومن الواضح أنَّ نيتشه يتقاطع في هذا المنحى مع نظيره اليوناني ديموقريطس فالأخير كان يعتقدُ بأنَّ الضحكة هي لسان الحكمة، وما يكسبُ النفسَ خفةً في برنامج نيتشه هو الرقص المرتبط بالضحك لذلك يعدُ كل يوم لايرقصُ فيه الإنسانُ ولو مرة واحدةً يوماً مفقوداً والحكمة التي لاتستدعي ولو قهقهة ضحك ليست إلا بياناً باطلاً.
يعلقُ ميشال أونفراي على مفهوم الرقص لدى نيتشه موضحاً بأنَّ هذه الحركة هي خداع للمكان واستهزاءُ بالثقل ولعبُ مع الجسد والأحجام، ومحاكاة للطيران.
وللموسيقى منزلة مرموقة في أجندة هذا المشاء المُصاحب لظله إذ صرح بأنَّ الحياة المُفتقرة إلى الموسيقى هي خطأ وعمل شاق ومنفى.
علاوة على كل ماسبق ذكره من الفتوحات والإنارة لأصقاع مُعتمة تغافل عنها المغامرون في جغرافية الفكر، فإنَّ نيتشه في طليعة الفلاسفة الذين أدركوا دور الأطعمة والمُناخ على المزاج والعقل يقولُ في “هذا هو الإنسان” بأنَّ اهتمامه بالنظام الغذائي يفوق دقة أي لاهوتي، لافتا إلى علاقة التحرر من أخلاقيات مُتشنجة بانواع الأطعمة.
شبح الملل
تطيبُ مرافقة أونفراي في تريضه الفكري بعالم نيتشه غير أن الاسترسال في الحديث مملُ ومن الضروري الاكتفاء بكتابة كلام يفيدنا في حياتنا اليومية. لعلَّ بهذا ما يستوفي الغرض هو قوله “لنكنْ شعراء حياتنا ولنكن كذلك في أدقِ التفصيلات وأكثرها ابتذالاً” يتدخلُ صوتُ مستفسراً هل هذا كل ما عليك القيام به لتكون نيشتوياً؟ هل أنت من دعاة النيتشوية؟ أن تكون نيتشوياً يعني أولاً أن تغدوَ نفسك وتمشي وحيداً ولايرتجفُ قلبك من النظر إلى سماءٍ مُثقلةٍ بغيوم داكنة، وأن تقولَ نعم للحياة وتصنعَ من أيامها العادية ماهو استثنائي.
وتمتحن العقائد والثوابت والكتب بعاصفة من الشك أي فائدة من كتاب لايستطيعُ أن يمضيَ بنا إلى ماوراء الكتب.!؟ أما عن الدعاة والدعوية فهذا لايتفقُ مع روحية نيتشوية لأنَّ التلميذ لا يحسن مكافأة المعلمِ إذا ظل فاغراً فمه بما يسمعُ منه. تدخل الصوت من جديد مطالباً بترشيح نخبة من مؤلفات نيتشه.
وما منى إلا أن اقترحتُ له مُقاطعة نيتشه ليس لأنَّ الذكاء الاصطناعي قد طوى زمن الفلاسفة كطي فوكوياما لسجل التاريخ، بل توفيراً لعناء الاصطدام مع الظواهر المرضية التي استفحلت في البيئة المُجتمعية هل تخوضُ معارك دونكيشوتية؟! ومن ثمَّ ألا ترى بأنَّ في تبعيتك للديناصورات المعاصرة وأنت تترنمُ بمقتبسات من كتب نيتشه تسيء إليه وتجعلُ من فلسفته مسخاً وتهريجاً؟! كما أنا لا أحبُ أن تلعب الوهم بالرؤوس وتتخيل بأنَّها يمكنُ القضاء على وباء الاستعراض الذي يفتك بالعالم.
يستشيطُ الصوت ساخطاً إذا كان الوضع على هذا المنوال ما مغزى ثرثرتك عن نيتشه؟، أعربت عن أسفي لكن لم يقتنعْ.
وأنا ختمتُ كلامي بأنَّ كل مايمكن عمله راهنا هو أن نتحسس رأسنا!.
عن “ميدل إست أونلاين”