صالح سالم
كاتب سعودي
إنّنا حين نحاول التعامل مع خطابات العنف، فنحن إزاء فهم نصوص تأسيسية لهاته الخطابات؛ فالذي يمارس العنف متكئاً على خطاب ديني، إنما يعتمد عليه من خلال تأويله هو، أو فهمه لهذا الخطاب؛ لذا فإنّ حضور فعل التأويل للنص أساس في محاولة التخفيف، أو تلاشي خطابات العنف. والتأويل هنا ليس هو التأويل بفهم تراثي أو حداثي معين؛ بل تأويل يحاول أن يغوص في كلّ نظريات التأويل؛ قديمها وحديثها، ليعيد لنا تأويلية معاصرة يمكنها مواكبة إشكال العنف الآني.
ومن هنا، فإنّنا لا نحصر العنف في خطاب ديني؛ بل ربما تمتد هذه الخطابات العنفية إلى أيديولوجيات عدة، كما نجده في (البيان الشيوعي) عند ماركس وإنجلز؛ ونلاحظه عند هتلر في عرقيته النازية. ونجده في (العنف المشرعن) عند الليبرالية الجديدة كما حلّلها ماكس فيبر؛ فتأسيسات العنف تختلف بحسب أدلجتها وتأسيسها المعرفي. وعليه، فإنّ العنف يقتبس أبجدياته التي يقنع بها ذاته من خلال نصوص وأدلجات يعتمد عليها، وإعادة الفهم هو الذي يمكن له أن يعالج هاته الأبجديات من أساسها، وليس معالجة إشكال العنف من ظاهره السياسي فقط.
وعند العودة إلى عصر النهضة العربية، مع محمد عبده، والأفغاني، ومحمد رشيد، والطهطاوي، وغيرهم؛ فإننا نلاحظ أنّ الخطابات الدينية قد ركزت اشتغالها على محاولة المواءمة بين الفكر الغربي والفكر العربي، بينما لم تنشغل كثيراً على إعادة تأويل النص الديني؛ لذا فإنّ العنف في الحركات الإسلامية يتجه إلى حالة تصاعد منذ تنظيرات سيد قطب وغيره، لجماعة الإخوان المسلمين، إلى تنظيم القاعدة الذي يستهدف الأمريكان فقط عبر (العمليات الاستشهادية)، حتى تنظيم داعش الذي يستهدف حتى المسلمين المخالفين له عبر (الحرق والنحر). وهنا يمكن لنا أن نعوّل كثيراً على فتح المجال لخطابات تأويلية مختلفة؛ لإعادة فهم النص الديني والنص التراثي، حتى يعين في إزاحة خطابات العنف عن الساحة الفكرية في عالمنا العربي.
لعلّ ارتباط النص الديني بالفعل السياسي، على مرّ التاريخ البشري، في أديان عدة، يجعلنا نفكر في علاقة السلطة السياسية بتأويل النص الديني، وهو ذاته ما نراه في الإسلام الذي تشعّب منذ فجره، إلى سنّة وشيعة، وخوارج ومعتزلة، فانقسم الفهم النصوصي إلى شُعب ذات هيمنة سياسية ممتدة حتى هذه اللحظة، وهو ما حصل في عدة قضايا فكرية في التأريخ الإسلامي، كقضية (خلق القرآن) وارتباطها بالفعل السياسي، حتى مرحلتنا الآنية، كما رأيناه في قضية نصر أبو زيد. وقد وجدنا هذه العلاقة التسلطية في المسيحية، منذ تسلط قسطنطين على النص الإنجيلي، وتشعبات المسيحية إلى أرثوذكسية، وكاثوليكية، وبروتستانتية، ما جعل الفلاسفة التأويليين يتعاملون مع التأويل كمخلص من السلطة السياسية، كما عند غادامير. وبهذا، تظهر لنا هذه العلاقة التسلطية بين السياسي والنص الديني، ليخدم بها أدلجته ومركزيته في السلطة. وهنا يظهر لنا بجلاء تحليل حنة أرندت، في كتابها “في العنف” علاقات السلطة بالعنف والقوة والقدرة، وقد نقلت عن (ماو) مقولته: “السلطة تنبع من فوهة البنادق”.
ولعلّه من الممكن جداً، أن يَحل الفعلُ السياسي، بالديمقراطية، الوضعَ الراهن الذي تلبّد بالعنف. لكن ما الذي يكبت العنف في الثقافة العربية والإسلامية إلى الأبد غير إعادة فهم النص الديني المعرفي بالتأويل؟ وهذا التأويل هو الذي حُورب في فجر الثقافة الإسلامية؛ منذ ابن رشد والغزالي، والمعتزلة عموماً، اعتماداً على الفعل السياسي الأموي وما بعده، حتى مرحلتنا الآنية، التي حكمت فيها السلطة القضائية على من تأوّل النص الديني بالكفر، كما حصل مع نصر أبو زيد. إلّا أنّ آنيّتنا الفكرية تتطلب الفعل التأويلي بشكل أكثر جدية وعمومية، غير منحصرة في التأويلية القديمة؛ بل منفتحة على فلسفة التأويل المعاصرة؛ لأنّ الفلسفة المعاصرة في مطلع القرن العشرين، ارتبطت بشكل مباشر وظاهر بنظرية النص منذ تأويلية هايدغر، وغادامير، ونيتشه من قبل، حتى دريدا، وفوكو، وتشومسكي، وغيرهم. بهذا يمكننا الموافقة بين الفعل السياسي والفعل التأويلي؛ لمحاولة الخروج من المأزق السياسي الذي يمرّ به العالم العربي في مرحلته الآنية.
نقلاً عن حفريات