إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
يمتد الدّين في الفضاء العام في حضور مؤثر ومتزايد في الثقافة والصراع كما الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ويشمل ذلك تقريباً جميع الأمم والأديان، وإن كان بتفاوت كبير في المحتوى والمنهج وفي علاقة الدين بالفضاء العام، وأظن أنّ الأزمة الدينية في عالم الإسلام مردّها إلى الرجوع إلى المحتوى الديني في المجال العام، في حين أنّ التشكل الديني في فضائه العام مستمد من خارج الدين وليس من داخله.
الحال أنّ الدين لا يُفهم من داخله، أي على أساس نصوصه الدينية، إلّا على مستوى فردي، وأمّا فهمه في الفضاء العام، فلا يكون إلّا من خارجه، وبالنظر إليه منظومة ثقافية، وذلك يكون مستمداً من تجارب إنسانية ومجالات علمية، فالعلوم والتطبيقيات الدينية في فضائها العام ليست ديناً، لكنّها تردّ إلى العلوم البحتة لملاحظة السلوك الإنساني تجاه الخوف والبقاء، والفلسفة لإدراك حقائق الأشياء، والإنثربولوجيا لفهم سلوك الإنسان الثقافي، والاجتماعي لفهم وإدارة التنظيم الاجتماعي والأخلاقي، والجينالوجيا لفهم التكوين المعرفي وتاريخ الأفكار، وعلم النفس لفهم سلوك الإنسان باتجاه المعنى والجدوى، وكذا في القانون والاقتصاد والسياسة…؛ أي إنّ الدين في فضائه العام ليس اختصاص رجال الدين وعلمائه وحدهم، بل هم في ذلك الأقلّ حضوراً وتأثيراً.
*الحال أنّ الدين لا يُفهم من داخله، أي على أساس نصوصه الدينية، إلّا على مستوى فردي، وأمّا فهمه في الفضاء العام، فلا يكون إلّا من خارجه، وبالنظر إليه منظومة ثقافية*
وفي ذلك، فإنّ الاعتدال الديني لا ينشئه تفسير معتدل للنصوص الدينية، لكن ينشئه تقدّم اقتصادي سياسي اجتماعي. والفهم المتقدم للدين ينشئه تقدّم علمي وتعليمي شامل. فلا يمكن أن ينشأ اعتدال ديني في ظل تخلف اقتصادي واجتماعي، ولا يمكن أن ينشأ فهم متقدم للدين من غير تقدم علمي وتعليمي شامل.
وهكذا، فإنّ الإلهي أو المقدّس في الدين لا يعود كذلك حين يحلّ في الفضاء الدنيوي بما هو إنساني يستمد وجوده ومبرراته من أنّه خاضع للمراجعة والشعور الدائم باحتمالات وتأثير الخطأ والمصالح والأهواء ونقص المعرفة ونموها وتصحيحها، فأن يكون تأسيس الدين على نص يؤمن أتباعه أنّه نزل من السماء لا يعني أن يكون أيضاً مقدّساً ونزل من السماء كل ما يتصل بالدين وفهمه وفي علائقه المعقدة بالمجتمع والفرد والتشريع والاقتصاد والسياسة، القداسة تقتصر على النص نفسه الذي يعتقد المؤمنون به أنّه نزل من السماء، لكنّ ذلك لا يمتد إلى متواليات وسياسات كثيرة ومختلف حولها بالنسبة إلى الدين.
وفي ذلك، فإنّه ليس مفيداً في شيء، بل هو ضرر وخلل كبير أن ينشئ باحثون ودعاة توفيقاً بين الدين وبين الحداثة، إذ لا يمكن الخروج من المأزق إلّا بأنسنة الإنساني، أي ردّ العالم المشهود إلى العقل دون انشغال بالتوفيق ببن العقلي والديني. وردّ الميتافيزيقي إلى الميتافيزيقيا دون أن يؤثر ذلك على الحياة في العالم المشهود…، وهذا هو معنى عالم الغيب وعالم الشهادة. وليس مهمّاً، ويجب ألّا يعني شيئاً، أنّ الدين يؤيد أو يعارض الحداثة أو التقدم أو التخلف أو الديمقراطية أو أساليب الحياة واتجاهات الطعام واللباس، أو كروية الأرض.
وأن تكون الجهود المعرفية في ذلك قوية الحجة ومدعومة بمعرفة واسعة وذكاء متقدم لأصحابها لا يغير من حقيقتها، بل إنّ أسوأ ما أصاب الحالة الإسلامية في نسختها المتطرفة أو المتخلفة أنّه تيسّر لها مفكرون وباحثون على قدر متقدم من العلم والذكاء، مثل سيد قطب ومن قبله أبو حامد الغزالي، إذ لا مناص من الإقرار أنّ سيد قطب منح التطرف تماسكاً وقوة وتأثيراً عميقاً في العقول والقلوب، وأنّ الغزالي أنشأ قاعدة علمية ودينية متماسكة وصلبة لتكريس الجمود والتبعية ومحاربة الاجتهاد والإبداع.
القضية الأساسية أنّ فهم الدين وتطبيقه لا يكون ديناً إلا في مجاله الفرد، بما هو معارف واعتقادات وممارسات فردية مستقلة بلا وساطة ولا حاجة إلى أحد، فكل مؤمن ينشئ فرداً صراطه المستقيم، وأمّا تطبيق الدين أو تأثيره في فضاءات جماعية ومنظمة، فليس سوى مسائل إنسانية متغيرة ونسبية وغير يقينية، وربما لا يكون ذلك خطأ، لكنّه ليس ديناً.
يبدو الدين مرشحاً ليأخذ موقعاً جديداً ومختلفاً في عالم العرب والمسلمين، وما يدعو إلى هذا التقدير هو حالتان جديدتان على الأقلّ تتشكلان؛ أولاهما مراجعة الحالة الدينية الجارية اليوم، والثانية صعود الفردية في ظل الشبكية التي تعيد صياغة علاقات القوة والتأثير والتنظيم في الدول والمجتمعات، وفي ذلك فإنّ في مقدور الفرد اليوم أن يتدين بلا حاجة إلى مؤسسة دينية أو سلطة سياسية، ومثل الطابعة ثلاثية الأبعاد أو الموبايلات الذكية فإنّ التدين الفردي يمثل تحدياً للسلطة في تنظيمها للنشاط الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين.
وسواء تزايد أو تراجع تأثير الدين ووجوده في حياة الناس وتصوراتهم والحقائق الأساسية المحيطة بالكون والحياة، فإنّه يتخذ أوضاعاً جديدة، ومعاني جديدةً أيضاً، فالنص الديني يقرأ في سياق العلاقة به، ويفهم ويتشكل كما يقرأ، وفي استيعاب الإنسان لشبكة الدلالات التي صنعها بنفسه ويجد نفسه جزءاً منها، فإنّه ينشئ نظامه الثقافي ورؤيته لحياته وعالمه الخاص.
صحيح أنّ هناك فرقاً بين الدين والثقافة، فالمتدين يرى الدين رسالة من الإله لترشده في حياته وبعد مماته، لكن لا مناص من فهم هذه الرسالة وملاحظتها في ظل الثقافة والتجارب الإنسانية المتشكلة، وليس ذلك لإثبات صواب الدين أو زيفه، حتى وإن كان الدين في حالته الأصلية النقية أكبر من قدرات الإنسان، وكانت الثقافة من صنع الإنسان، لكن لا مفرّ من فهم الدين ودراسته بالأدوات الإنسانية، العلم واللغة والتجربة والحضارة، وأن يؤمن الإنسان فرداً أو جماعات بالدين على النحو الذي تعبّر عنه النصوص الدينية؛ لا يغير أيضاً من حقيقة أنّ الثقافة والدين هما من مظاهر حياة الإنسان (غير الدينية)، وعلى الرغم من أنّ هذه المقولة صارت بديهية في عالم الغرب، وتكونت في ذلك معرفة واسعة ومكتبة هائلة من الكتب والدراسات والأفلام والمسرحيات والروايات والقصص والفنون، فما زالت في عالم العرب فكرة خيالية متطرفة.
*صحيح أنّ هناك فرقاً بين الدين والثقافة، فالمتدين يرى الدين رسالة من الإله لترشده في حياته وبعد مماته، لكن لا مناص من فهم هذه الرسالة وملاحظتها في ظل الثقافة والتجارب الإنسانية المتشكلة*
كان من أسوأ ما أصاب عمليات التحديث والاستيعاب المعاصر للإسلام التي بدأت في ظل الدولة العربية الحديثة، هو إعادة فهم المعارف والمنجزات الغربية بمنظور إسلامي بدلاً من العكس؛ أي دراسة الدين وإعادة فهمه بمدخلات العلوم الحديثة التي تطورت في عالم الغرب، فصار لدينا أنظمة إسلامية في السياسة والاقتصاد والبنوك والتعليم والإعلام وأسلوب الحياة والعمارة، هي ليست إسلاماً وليست حضارة، بدلاً من أن يكون لدينا عمليات فهم واستيعاب للدين في فضائه العام، بما هو حالة أو ظاهرة ثقافية أو اجتماعية، فيكون لدينا سوسيولوجيا الإسلام وإنثروبولوجيا الإسلام وبيولوجيا السلوك الإسلامي، أو في عبارة أخرى كان يجب أن يكون لدينا أنسنة الدين بدلاً من تديين الإنساني، ففي الأنسنة يكون في مقدورنا أن ننشئ حياتنا كما يجب، وكما نحب أن تكون، ويكون الدين في السياق المعرفي والاجتماعي الذي يخدم هذا الاتجاه، أو يكون التدين هو ما نتوقعه من الدين بما تمنحنا هذه التوقعات مدركاتنا الحضارية والاجتماعية، لكن في التديين فقد مضينا بحياتنا وشأننا المشهود لنخضعه للغيب الذي لا يعرفه أو يدركه أحد، وفي ظل غياب هذا الإدراك صارت تقود حياتنا مؤسسات وجماعات تنشئ معرفتها وقراءتها وفهمها للدين، وصار الدين هو ما تتوقعه منّا السلطات الدينية والسياسية، وتصف توقعاتها منّا، والتي هي مطالب وطموحات وأهواء سلطوية بأنّها الدين، أو كما في القرآن: “ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله”…، لكنّنا نملك اليوم فرصة عظيمة في صعود الفردية وتدفق المعرفة وتداولها وإنتاجها على نطاق واسع يتاح لكل إنسان أن يشارك فيه، وأن ننشئ حاضراً جديداً نحدده من معطيات الحاضر نفسه، غير ملزمين بالمؤسسات والمنجزات التي لم يعد لها مبرر، ولن تكون موجودة في المستقبل القريب.
نقلاً عن حفريات