إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
يعكس سلوك جماعات الإسلام السياسي مع التراث مأزقاً عملياً جوهرياً، ففي الخطاب السياسي الذي هو إنساني حداثي متغير بالضرورة تقدّم الجماعات نفسها على أنّها تطبيق معاصر للإسلام، لكنّ التغير والاختلاف في المواقف التي تسلكها الجماعات يجعل التراث الإسلامي الذي تستند إليه عرضة للانتهاك وإعادة الفهم والتكييف، وفي المحصلة يكون “الإسلام” هو ما تريده الجماعات أو تتأوله.
هناك علاقة جدلية بين كلام الله وبين الخطاب الديني، فالخطاب بما هو المعالجة الإنسانية المنهجية للنص الديني يكون إنسانياً وليس ديناً، ويتأثر في تشكيله بالحالة العلمية والاقتصادية والاجتماعية لصانعي الخطاب، وكذا المصالح والأهواء والمؤثرات البيئية الكثيرة والمعقدة، وقد أصبح من الضروري أن تنشأ ثقافة عامة يدركها جميع الناس، وخاصة المتدينين، تميز بين ما هو من عند الله وما ليس من عند الله، وتميز بوضوح وعملية بين النص الديني والخطاب الديني، وتوقف الشعور الوصائي للمفسرين بأنّ تفسيرهم هو الدين.
وهنا ينشأ، كما يقول محمد أركون، السؤال القلق عن الحقيقة المتعلقة بإنتاج المعنى، فإذا كان المقدّس هو الحقيقة، فإنّ فهمه نسبي مختلف متعدد تتداخل فيه اللغة والسيمياء والفلسفة والثقافة والتاريخ، وفي هذه الحالة فإنّ الحقيقة هي افتراض احتمالي غير يقيني إلا على سبيل الاعتقاد الذاتي والدوغمائي للفرد والجماعة، ويبقى صحيحاً القول إنّ هذه الحقائق تقوم بوظيفة سيكولوجية مطمئنة لكل أولئك الذين لا يستطيعون التوصل إلى أدوات البحث العلمي والتحليل الدقيق، إنّها تشكل بالنسبة إليهم ملاذاً يلجؤون إليه.
*التاريخ الإسلامي المبكر حوّره المدونون الأوائل في اتجاه من التقديس والترميز والأسطرة*
هناك فرق بين الحقيقة السوسيولوجية والحقيقة الحقيقية، لأنّه يكفي أن يؤمن العدد الأكبر من المجتمع بفكرة ما لكي تتحول إلى حقيقة حتى لو كانت خاطئة، وهنا تكون الحاجة للفكر الفلسفي النقدي ليتخلى الناس عن أفكارهم الشائعة والراسخة التي يعتقدون بأنّها حقائق، في حين أنّها أوهام اجتماعية أو حقائق سوسيولوجية منتشرة في المجتمع.
يجري أركون ما يصفه بنظرة نقدية تتفحص محلات التبلور لما سيصبح لاحقاً الاعتقاد الدوغمائي، أي الأرثوذكسية بصفتها تعبيراً عن الأغلبيات السوسيولوجية أو العددية الموحدة المتراصة بغية ترسيخ أنظمتها في الاعتقاد واللّا اعتقاد، لأنّها تمثل بالنسبة إليها قاعدة أمنية وقوة تعبوية ضد أقليات منذرة بالخطر أو أغلبيات أخرى منافسة.
يقول أركون: إنّ التاريخ الإسلامي المبكر قد حوّره المدونون الأوائل في اتجاه من التقديس والترميز والأسطرة، وقد خرّب ذلك التاريخ الإسلامي وأفسده، وحصلت عمليات أسلمة لمخيال إسلامي مشترك، وحصل أيضاً جهد حثيث لدمج الذاكرات الاجتماعية الحية في مجتمع الفتوحات الذي كان في حالة توسع آنذاك، وأدخل المعتنقون الجدد للإسلام العائشون في المجتمعات المفتوحة مصالح إيديولوجية ورمزية متنوعة، وهمشوا عناصر التراث القبلي العربي، وقدّمت الحكايات والروايات على أساس أنّها نموذجية مثالية قابلة لأن تكون قدوة لحياة المؤمنين باستمرار، هذا بالإضافة إلى الأحكام والأمثال السائرة التي تغذي الرصانة الأبدية للأمم البشرية، كل ذلك يتغلب على المعرفة التاريخية الموضوعية، والسبب في ذلك برأي أركون أنّ الهمّ الأول للفقهاء المشكلين للأرثوذكسية ثم الحارسين لها كان يكمن آنذاك في ترسيخ قواعد السلطة الشرعية تحت إمرة المشروعية الروحية والأخلاقية العليا المشتقة من الوحي.
ويحدد أركون التلاعب الثاني الذي قام به العقل اللّاهوتي بالافتراض بوجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية بين الزمكان الأولي الأصلي الذي لفظت فيه الآيات والأحاديث لأول مرة، وبين الزمكانات المتغيرة أو الظروف الاجتماعية المتغيرة التي يتم فيها الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث من التاريخ بعد أن أصبحت نصوصاً مكتوبة، وهنا يقوم المسلم التقليدي بعملية الانتقال والمطابقة وكأنّ الأمر طبيعي لا غبار عليه، إنّه يقوم بذلك دون طرح أيّ سؤال عن شروطه وإمكانيته وصحته، وخاصّة صلاحيته.
ليس ثمّة فهم صحيح واحد معياري للإسلام كما تعتقد وتدعو الجماعات الإسلامية، وهي أكثر من يدرك ذلك، لكنّها (الجماعات) في دعوتها إلى العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من البدع والانحرافات تنشئ وصاية على فكرة غير موجودة ولا يستطيع سواها أن يتصرف بها.
يلاحظ أركون بُعدين مهمين متمايزين في فهم الظاهرة الإسلامية أو الحدث الإسلامي، لكنّ الاستخدام الشائع يخلطهما ببعضهما البعض في كلمة نوعية واحدة، هي الإسلام، هذان البعدان أو الجانبان من المصلطح هما:
1- الروح الدينية الجديدة التي تم تدشينها في اللغة العربية على مستوى لحظة الخطاب الشفهي القرآني وممارسة النبي ذاته أثناء حياته.
2- القوة الاستنهاضية الكبيرة لهذه الروح الدينية التي تدعم على مدار التاريخ وحتى يومنا هذا العمل الدنيوي المحسوس للفاعلين الاجتماعيين الأكثر تنوعاً، أي للمؤمنين أو المسلمين من شتى الأقوام والبلدان، نحن نتحدث بشكل أوتوماتيكي عن الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي والفنون الإسلامية.
وهنا يحدد أركون أنواعاً من الإسلام أو التراث الإسلامي:
1- الإسلام المنبثق الصاعد في بداياته الأولى، أي لحظة النبوة وظهور القرآن الشفهي.
2- الإسلام العالم، أو إسلام الفقهاء والعلماء والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة في العصر الكلاسيكي، على الرغم من الاختلافات الكبيرة فيما بينهم.
3- الإسلام الشعبي، وبالأحرى الإسلامات الشعبية (بالجمع).
3- الإسلام الشعبوي الأصولي المتطرف الصاعد منذ سبعينات القرن الماضي.
العالم، وليس فقط عالم الإسلام، يشهد عودة صاخبة إلى الدين، وانبعاثاً في التدين أكثر ممّا هو في الدين، أو شعبوية دينية، وتدرك الجماعات المشتغلة بالسياسة والاجتماع أهمية هذا المورد في الحشد والتعبئة.
لكنّها في رعيها الجائر للدين والسلوك الديني جعلته أزمة كبرى، ثم ارتدت الأزمة على الجماعات نفسها وصارت بحاجة إلى من ينقذها من نفسها.
نقلاً عن حفريات