عمار علي حسن
كاتب مصري
تحفل الساحة الإعلامية، وسياقات التحليل السياسي، بفوضى في المصطلحات في التعامل مع التنظيمات والجماعات والفرق الإسلامية، التي تسعى إلى تحصيل السلطة السياسية، ومنها من يرفع السلاح في سبيل تحقيق هذا الهدف، الذي ينبو عن جوهر الإسلام ورسالته.
فعلى سبيل المثال؛ هناك عدة أسماء متداولة لتنظيم داعش الإرهابي، تشكّل جميعها ألواناً من التفاعل، تفرضها روافد التفكير ومنابعه، ومقتضيات المصالح والمنافع، وطرق التعامل والتفسير والتحليل، ومسارات الأهداف والمقاصد، ومصادر التمويل والتوجيه.
وليس هذا بشيء جديد في تاريخ التعاطي؛ سلباً أو إيجاباً، مع الحركات والتنظيمات والجماعات الدينية المتطرفة والإرهابية، طيلة تاريخها، القديم والحديث والمعاصر. وفي زماننا، تعدّدت أسماء بعض الحركات، وكانت لأجهزة الأمن ووسائل الإعلام؛ المقروءة والمرئية والمسموعة والإلكترونية، دوراً بارزاً في هذا الموضوع.
ابتداءً، هناك عبارة دالة للمفكر الفرنسي “فولتير” يقول فيها: “إذا أردت أن تتحدث معي، فحدّد مصطلحاتك”. فتحديد المفاهيم (Concepts)، والمصطلحات العلمية (Technical Terms)، يعدّ أمراً ضرورياً في مجال البحث العلمي، كما أنّه يحدّد موقفنا من ظاهرة أو تيار أو فكرة أو جماعة، ويبين توجهاتها حيالها.
وتعبّر المفاهيم دائماً عن الصفات المجردة التي تشترك فيها الأشياء، والوقائع، والحوادث، دون أن تعني واقعة أو حادثة بعينها، أو شيئاً بذاته، نظراً إلى أنّ المفهوم هو الوسيلة الرمزية التي يستعين بها الإنسان للتعبير عن مختلف المعاني والأفكار المختلفة، بغية الاتصال بغيره من الناس، وهو الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا عليه، وكذلك المسلمات الكامنة وراء الاقترابات العلمية المختلفة، التي تنتج عن نموذج معرفي معين.
وتختلف المفاهيم في درجة تجريدها، وتنقسم على هذا الأساس إلى قسمين: مفاهيم بسيطة ومفاهيم مركبة، والنوع الأخير على درجة أعلى من التجريد، وهو يضمّ عدداً من المفاهيم البسيطة، وتختلف المفاهيم من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى؛ طبقاً لاختلاف الخبرة الاجتماعية والظروف البيئية التي تحيط بالإنسان، وهناك خاصيتان رئيستان للمفاهيم: الأولى: خاصية بنائية (Structural Property)، وهي تشير للمادة التي يتكون منها المفهوم والتغيرات التي تطرأ عليها، والثانية: خاصية وظيفية (Functional Property)، وتشير إلى الوظيفة التي يؤديها المفهوم.
أقول هذا لندرك أنّ تحديد المصطلحات والمفاهيم ليس عملية ترفيّة أو جانبية أو تافهة، إنّما هي مسألة غاية في الأهمية، كي نحدد طريقة فهم الجماعات المتطرفة، ونحدّد موقفنا منها، وتعاملنا معها، ولا نتساوق مع إدراكها لنفسها، الذي يقوى على صناعة صورة إيجابية، لا علاقة لها بالواقع أو الحقيقة.
فعلى سبيل المثال، لا الحصر؛ كان شكري مصطفى يسمّي تنظيمه التكفيري “جماعة المسلمين”، ولم يكن من الطبيعي أن تتعامل أجهزة الإعلام المصرية مع المسمَّى كما وضعه صاحبه؛ لأنّه ينطوي على إيجابية كبيرة؛ بل فيه شعور بالاصطفاء والنقاء والعمق، فأطلقت عليه ما يستحق أن يُسمى به وهو “التكفير والهجرة”.
وأطلق أسامة بن لادن على الكيان الذي أنشأه “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين”، لكن عُرفت، على النطاق الأوسع والأكثر تأثيراً، باسم “القاعدة”، استناداً إلى أنّ نقطة انطلاق بن لادن، والذين كانوا معه، هو “قاعدة الجهاد” التي تأسّست في باكستان، لاستقبال المقاتلين الذين جاؤوا من دول إسلامية عدة، لخوض المعارك ضدّ الاتحاد السوفييتي المنهار في أفغانستان.
وهناك من لا يسمّي “جماعة الإخوان المسلمين”، كما أطلق عليها مؤسسها حسن البنا؛ لأنّ الاسم فيه إيجابية أيضاً، ولذا يقف كثير من المناوئين عند حدّ “الإخوان” أو “جماعة الإخوان”؛ بل هناك من حذف الأول المهموزة، وأطلق عليها “جماعة الخوّان”، أو “الإخوان المتأسلمون”.
ويمتدّ الأمر إلى اللافتة العريضة التي تعمل تحتها كلّ هذه الجماعات وهي “الإسلام السياسي”، فتوالت تعبيرات “المتأسلمون”، و”الجماعات المتأسلمة”، و”الإسلامويون”، و”الجماعات الدينية السياسية”، و”الماضويون”، و”الجماعات المتطرفة”، و”التنظيمات الإرهابية”، و”الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي”، و”الخوارج الجدد”، و”الأصولية”، و”جماعات العنف الديني”، …إلخ.
وحين ظهر تنظيم داعش، كان هذا مستمداً من الحروف الأولى لاسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وبينما بقي هناك من يقف عند الاسم المختصر “داعش”، هناك من يكتب الاسم كاملاً، مثلما وضع أصحابه وأرادوا. ثمّ توالت التسميات من قبيل: “تنظيم الدولة”، و”الدولة الإسلامية”، وبات أفراد التنظيم يحملون اسم “الدواعش”، وتصرفاتهم تنعت بـ “الدعشنة”، أو “الداعشية”، باعتبارها نمطاً من السلوك العنيف المتوحش، والاتجاه المفرط في تفكيك الدول، وقمع الناس وقهرهم، وتوظيف الدين في أسوأ سلوكيات بشرية من قبيل القتل والتدمير والتخريب والسّبي والاغتصاب والسرقة والقهر والقسوة.
أمّا بالنسبة لأجهزة الإعلام؛ فإنّنا نجد أنّها ركّزت على أربعة مسميات، على النحو الآتي:
1 – “داعش”، وهو إن كان يتفق مع الاختصار الذي حدّده التنظيم، فإنّه يتكئ على الصورة الذهنية السلبية، التي ترسّخت في الرؤوس عن تصرفات أعضائه المتوحشة، التي تحملها أخبار القتل والحرق والاغتصاب وسرقة الآثار والأموال والنفط، وإجبار الناس الذين يقطنون الأماكن التي يسيطر عليها التنظيم، على هيئات وسلوكيات تفقدهم حريتهم، وتنال من إنسانيتهم، وتضرّ بمصالحهم.
2 – “تنظيم الدولة”: هو تعبير يحاول أن يكون محايداً، أو يراه أصحابه متساوقاً مع الوصف الدقيق لـ “داعش”؛ فهو تنظيم بحكم تركيبته العسكرية، وارتباطاته بالخبرة التاريخية لما سبقه من تنظيمات إرهابية ومتطرفة، وهو دولة؛ لأنّه يسيطر على أرض يسكنها الملايين، ويعمل فيها قوانينه، ويقوم ببعض الوظائف التي تقوم بها حكومات الدول حيال شعوبها.
3 – “الدولة الإسلامية”: وهو تعبير مغرض، تستعمله أغلب وسائل الإعلام الغربية، وهو ينطلق من التعامل مع “داعش”، بوصفه يمارس مهام دولة، وإن كان غير معترف بها، ومن ربطه بالإسلام، كأيديولوجية تحكم تصورات التنظيم وتصرفاته، رغم أنّه لا يعنيه كثيراً الالتزام بـ “الشرع الإسلامي”، كبعض التنظيمات الأخرى، التي أظهرت تمسكاً عميقاً، لما تصوّرته، أو توهمت أنّه “صحيح الدين”، وربط داعش بالإسلام على هذا النحو يخدم توجّه من يمعنون في “الإسلاموفوبيا”، أو يستقر في رؤوسهم أنّ الإسلام دين عنيف بطبعه، وأنّ دولته، إن قامت ستكون على هذه الشاكلة، أو من جعلوا من الإسلام عدواً، وفق النزعة التي ظهرت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، لدى أمريكيين من بين واضعي السياسات وخبراء الإستراتيجية، والكُتَّاب، ورجال الدين.
4 – “تنظيم الدولة الإسلامية”: اسم ينطوي على كلّ المعاني التي وردت سابقاً، وربما لا يستنكره “داعش”، الذي لا يريد لسلطانه أن يقتصر على العراق والشام، إنّما يمتدّ إلى مناطق أوسع في العالم، حتى أنّها تتجاوز الجغرافيا التي ساحت فيها الإمبراطورية الإسلامية في أوج قوتها، والممتدة من غانا في غرب إفريقيا، إلى وادي فرغانة في آسيا الوسطى.
نقلاً عن حفريات